نداء الدم _أن ميثر _روايات عبير (الجزء الأول)




الفصل الاول

1_ليلة "الديك الذهبي "
انحرف جويل بسيارته عن الطريق الرئيسي عند مفرق سالتون .واتجه صوب الغرب ,الارض تمتد اميالا تكسوها شجيرات الوزال الشوكيه بخضرتها الدائمه وزهورها الصفراء,تنتشر بينها بعض الاكواخ ,يتصاعد الدخان من مداخنها ليكون العلامه الوحيده التي تنبئ عن وجود حياة .
اخذ المساء يظلل اشعة الشمس المائله ومزيج الوان الضوء يبدو رائعا ,ومع ذلك فان جويل _بحاسته الفنيه _لم ينتبه لجمال المنظر, اذ كان مشغول الخاطر تماما ...ولم تكد الشمس تغرب حتى بدا الافق بلونه الشفيق ,وبدت النجوم من خلاله كأنها ترتعد .
كانت السيارات المقبله من الاتجاه المعاكس تضطر الى ان تتخلى عن موقعها في وسط الطريق لسيارته المرسيدس .ولم يكن جويل في حاله نفسيه تسمح له بأن يتنازل ولو بعض الشئ ...كانت معدته تذكره بأنه لم يأكل شيئأ منذ الصباح ,وكان يحس بالضمأ.
نظر الى الساعه الذهبيه في معصمه ,وكانت قد تخطت السابعه مساء ,واحس بالظلام يرخي سدوله ولم يكن راغبا في القيادة على ذلك الطريق خلال الليل .وبدأ يدرك انه امسى على بعد خمسة او ستة اميال فقط من لانغثويت .وربما يكون سعيد الحظ فيجد في الفندق كل مايريده حتى صباح اليوم التالي .
كانت القريه صغيره ,تقوم حول ميدان مستدير .صندوق الهاتف يقبع خارج مكتب البريد قرب المتجر ,واخيرا الحانه التي تحمل اسم "الديك الذهبي ".وكان كل مايطمع فيه مكانا نظيفا للنوم ,وشرابا باردا ينعشه .
وكان شاب او شابان يتسكعان في الساحه ,اثار فيهما منظر السياره المرسيدس بعض التعليقات الفظه واضطر جويل ان يترك السياره خارج الحانه داعيا الله الا يعبث احد بمسامير صدئه في طلائها وسأل نفسه :اين ذهب السحر الريفي القديم الذي كان يحلم به ؟
وترك جويل حقيبته في صندوق السياره ,وارتدى سترته الصوفيه واحكم رباط العنق وهو يجتاز المدخل المؤدي الى الحانه ولم يكن فيها سوى شخص او شخصين من الزبائن المسنين .الفتاة التي تقوم على الخدمه في مقتبل العمر .شقراء مفعمه بالصحه ,بدأت تعير اهتمامها للوافد الغريب ذي البشرة السمراء ,وغمرته بنظرة دافئه مشجعه ,وقالت له :
_حسنا ,ياسيدي ,بم تأمر ؟
واخرج جويل حافظة نقودة من جيبه الداخلي ثم قال :
_اوه ,اي شيء بارد من فظلك .
ونظر حوله ,ثم سأل :
_اعتقد انكم تستقبلون النزلاء للمبيت ؟
وملأت له كأس ,وناولته اياها ,واتسعت عيناها ,ونظرت اليه بشيء من الفضول ,واستوضحته :
_نزلاء للمبيت ,ياسيدي؟اعتقد ان السيد هاريس يمكن ان يستقبل زائرا او زائرين ,وان كنت غير متأكدة .
وناولته المبلغ المتبقي له والتقت عيناهما ,وهي تقول :
_اتحب ان اسأل لك عن المبيت ,ياسيدي ؟
ووضع جويل باقي النقود في جيبه ,وقال :
_اذا سمحت !
اراح جويل جسمه على كرسي مستدير من كراسي الحانه ,كان الشراب باردا لذيذا ومنشطا ,كما اراده بعد تلك الساعات الطويله في قيادة السياره ,وخطر له ان لانغثويت لم تكن عادة تستقبل غير زائرين قلائل في مثل ذلك الوقت من السنه .
ظهرت الفتاة ومعها رجل في اواسط العمر بدا انه صاحب الحانه ,واصطنع جويل ابتسامه اعتقد ان الرجل بادله مثلها ,واستند هاريس بذراعه وهو يسأل :
_سمعت انك تريد مكانا للمبيت ,هل تطول اقامتك ؟
واجاب جويل في هدوء :
_ربما لليله واحده فقط !
واستفسر الرجل الاكبر سنا :
_فأنت مسافر على الطريق اذن ,ياسيدي ؟.
وهز جويل رأسه ,ثم اذعن لفضول السائل ,فقال :
_انني في مهمه في لانغثويت .
واجاب السيد هاريس :
_حسنا ,هناك غرفه ,وزوجتي تعدها لك الان ,هل نقدم لك الطعام ايضا ؟
كان جويل يقاسي من الجوع ,واجاب في هدوء يستحوذ على الاعجاب :
_اذا كان ذلك ممكنا ,وتكفيني لهذا المساء بعض الشطائر ,وربما يكفي بعض الخبز المحمص للافطار .
عند ذلك ظهرت سيدة ظن جويل انها السيدة هاريس ,وتحدثت مستفسره :
_هل هذا السيد الذي يريد ان يقضي الليل هنا ؟
واومأ زوجها بالايجاب ,فأضافت :
_حسنا ,ياسيدي !غرفتك حاضره واظن انك جائع ؟
نظر جويل الى السيده هاريس واجاب :
_انا ,حسنا ...
واومأ بالموافقه ,وعلق زوجها :
_نعم يا الي ...ان السيد
والتفت اليه مستفسرا :
_لم اعرف اسمك ياسيدي ..
ثم اكمل الحديث لزوجته :
_انه يريد الطعام ...
ورد جويل فورا :
_اسمي كنغدوم ,جويل كنغدوم ...من لندن .
وصعد الى غرفه صغيره تستخدمها الاسرة عادة .وجاءت السيدة هاريس لتقوم بنفسها على خدمته ,ولم يكن ذلك ليحرمه من الشقراء التي قدمت له الشراب في الحانه ,كانت تلتمس العذر لتدخل فجأة وتخرج بعد ان تسأله اذا كان يلزمه اي شيء ,كان فمه يبدو عنيدا ساخرا بعدما اتى على الوجبه التي قدمتها له السيده هاريس التي دخلت وبدا عليها شعور بالارتياح عندما وجدت الصحن خاليا فقالت :
_ارجو ان يكون الطعام اعجبك ياسيدي .
واومأ جويل برأسه علامة الموافقه ,وقال :
_كان لذيذا للغايه ...شكرا ياسيدة هاريس ...
وابتسمت وكان وجهها ينم عن سرورها ,وقالت وهي تجمع الصحون :
_سوف تقيم معنا الى الغد فقط ؟
ونهض جويل ,وهو يقول :
_امل ذلك ...اعني بالطبع ان العمل الذي قدمت له ربما لا يأخذ وقتا اطول من ذلك (تنهد)
ثم اضاف :
_ينبغي ان اعود الى لندن .
قالت مستفسره :
_اذا ...فانت تعمل في لندن ,ياسيد كنغدوم ..
واجاب جويل بطريقه تنم عن عدم الرغبه في اعطاء اجابه شافيه :
_احيانا .
وسألت :
_ولكنك تسكن هنا ؟
واجاب :
_يمكنك ان تقولي ذلك .
كانت السيدة هاريس كما يبدو تحاول العثور على مدخل للتعرف على مهمته ,وكان هو من جانبه يحاول التهرب من الاجابه على مثل هذا السؤال ,وقال :
_اذا اذنت ,سأصعد الى غرفتي الان ...كان يوما مضنيا ,واشعر بشيء من التعب .
وحاولت السيدة هاريس ان تخفي شعورها بالاحباط ,واجابت :
_طبعا ,ياسيدي ,انك تعرف المكان .
وابتسم جويل وقال :
_طبعا تصبحين على خير !
وظهر عليها الرضا الكامل لطريقته المهذبه في الحديث ,واجابت مبتسمه :
_وانت بخير ياسيدي .
وسلك جويل طريقه عبر الردهه الى الدرج ,وظهرت الفتاة الشقراء عند المدخل تقول بشيء من الحياء:
_الا تأتي لتأخذ شرابا الان ؟
وهز رأسه وهو يقول :
_لا ,اشكرك
وردت في الحال :
_غير معقول ...هل تنام الان ؟
واجاب :
_ولم لا ؟اليست الساعه بعد العاشره ؟
وردت عليه باستغراب :
_ياللغرابه !العاشره !كنت اظن ان سكان لندن يسهرون الى ساعة متأخرة من الليل !ماذا حدث لسنوات السبعينات الراقصه المرحه ؟
اجاب بجفاف :
_اعتقد انها شنقت نفسها ..اسعدت مساء!
كان الفراش بارد كالثلج ,ولكن حرارة الافكار التي كانت تعتمل بداخله ساعدته على احتمال الموقف ,اضطجع جويل على ظهره ,واسند رأسه على ذراعيه ,وبدأ يحدق بعبوس في ظلال الازهار البارزه على الستائر المصنوعه من الكريتون اخيرا ,انه هنا في لانغثويت ,وفي بقعة ما في الخارج ...ربما على مسافة ميل ...توجد راشيل ...راشيل غيلمور كما تسمي نفسها الان ...
واحس بمذاق الصفراء الكريه في مؤخرة حلقه :راشيل تظن انها تستطيع ان تفعل ذلك ...به هو ! وتكورت يداه بشده , وانضغطت كل منهما في قبضة قويه ,لو تمكن منها هنا ...والان ,لاعتصر عنقها بيديه !
ولكن الانفعال كان ضياعا ...انه يعرف ان الهدوء والموضوعيه لهما فعل اوقع ,ولكن لم يكن بوسعه ان يتأكد تماما انها فعلت ذلك نكاية به ,ومع ذلك فأية محاوله لتبرير سلوكها لم تكن شيئا مستساغا.
كان يعمل في وضع اللمسات الاخيره للوحة السيدة انطونيا باري عندما جاء فرنسيس يدق بابه ,كان قد استيقظ في ذلك اليوم مبكرا عن عمد ليستفيد بالضوء ,وصار فرنسيس اخوه غير الشقيق يحكي القصه التي جاء بها الى جويل في تلعثم حتى اكملها ,ولكن جويل لم يأخذ القصه على انها ورطه ماليه جاء يطلب فيها العون المالي من اخيه ,وقال جويل بشيء من القلق :
_ولكنني لا افهم لماذا تظن ان تفكير ابي في الزواج يمكن ان يسبب لي الضيق .
عندئذ اخذ فرنسيس يذرع بخطواته المرسم ,وهو يردد :
_بالطبع ,لا يهمك ...تركت لك جدتك ثروة كبيره ...اما انا فليس لي اقارب اثرياء من طرف امي ,واذا تزوج ابي مرة اخرى ,فالمنتظر ان يحرمني من الميراث كما حرمك !
كان جويل قد اخذ يدفع شعره الى الخلف بيدين مضطربتين ,وعلق قائلا :
_لكنك لم تكترث عندما حدث ذلك ,
واضاف :

_كان الامر يختلف في حالتي وانت تعلم ذلك ,كان ابي يعلم انني لست بحاجه الى ثروته ,وكما تقول انت فان جدتي هونت من دور ابي في رسم مستقبلي .اما بالنسبة اليك فالامر مختلف ,انك ابنه ,وحتى لو تزوج ,فان الامل في ان ينجب اطفالا ضعيف ! الاترى انه في الثالثه والستين من عمره ؟
اجاب فرانسيس :
_الا تعلم ان بإمكان الرجل احيانا ان ينجب حتى لو كان في التسعين من عمره ,ومع ذلك فأنك لم تسمع القصه كامله بعد ,انك لم تسأل من تكون المرأة التي ينوي ان يتزوج بها ؟
هز جويل كتفيه بشئ من عدم الاكتراث ,وهو يقول :
_ان ذلك امر لايهم .
واستأنف فرنسيس الحديث ,وهو يتلذذ بوقع كلامه على اخيه :
_ربما يهم ,اسمها غليمور ...راشيل غليمور ...وكان اسمها من قبل راشيل آبي .
عند ذلك فقط حدث مالم يكن متوقعا ,فقد انطلق جويل بخطوات غريبه وفعل ما لم يكن منتظرا بالمره اذ امسك بأخيه غير الشقيق من قميصه ,وجذبه تجاهه بعنف ,وهو يقول :
_ماذا تقول؟
وقع فرنسيس في شيء من الاضطراب ,واخذ يخلص نفسه ,وهو يقول :
_هذه ...هي ...ال...حقيقه ...الحقيقه ياجويل ..انها ,راشيل ...راشيل !
دفعه جويل بعنف جعله يدور حول نفسه ,ويستقر في النهايه على الارض ,وكان وجهه ممتقعا من الغضب عندما نهض على قدميه ,واخذ ينفض التراب عن ثيابه ,وهو يحدق في اخيه بخبث :
_انها ليست غلطتي ...فقط لانك لاتحب الحقيقه ...عندما تسمعها .

لم يعد جويل يسمع .عرف ان ماقاله فرنسيس صحيح .وهو لم يكن ليأتي اليه بقصة مثل تلك ان لم يكن لديه البرهان على صدقها ,واخذ يبحث عن سيكار ,وضعه في فمه ثم اشعله بيدين تفتقدان الاتزان ,وصار يحملق بأكتأب خارج النافذه ,كان يطل على شاطئ نهر التايمز عبر السطوح .وعندما احس انه استعاد بعض توازنه استدار تجاه فرنسيس الذي اشعل سسكارا ,واخذ ينفث دخانه بعصبيه عندما بادره جويل بقوله :
_اخبرني بما تعرفه .
وتململ فرنسيس واجاب في دمدمه :
_لا اعرف .
وتصلب فك جويل وهو يقول :
_لا تحاول ان تخدعني ,قل لي كيف عرفت انها راشيل .
اجاب فرانسيس :
_رأيتها .
_ماذا تعني ؟
_رأيتها ,اوه ,بالله ياجويل !كف عن النظر الي هكذا !انها ليست غلطتي ,في الليله الماضيه ...مع ابي ! حقا .
ونطق بالعباره الاخيره عندما القى جويل بسيكاره الى الارض ,وسحقه بنعل حذائه .
_اين ؟
_في بيروكيوس يتعشيان ..رأيتهما ..اؤكد لك .
كان جويل يحرك رأسه من جانب الى اخر تعبيرا عن الشك ,وقال :
_ابدأ من البدايه .
اخذ فرنسيس يدخن يسكاره بشده ,وهو يقول :

_حسنا !عرفت منذ وقت ,ان هناك امرأة .اوه ,نعم ,منذ ...منذ ان رحلت امي ..كنت استطيع ان اعرف ذلك .
_ارجوك ...ادخل مباشرة في الموضوع .
_منذ اسبوع ,اخبرني ابي ان هناك شخصا ما .
_ولكنك لم تخبرني بذلك من قبل !
_ليس فورا ,لا !
قال فرانسيس ذلك مدافعا عن نفسه .
_كما ذكرت في كلامي ياجويل ,ان عمره ثلاثة وستون عاما ,وكنت اظن ,ان اي امرأة لايمكن ان تقبل به الا اذا كانت في مثل سنه !وانت تعرف كذلك ان امي وامك كانتا قريبتين منه في العمر .
_حسنا ...استمر .
_الذي حدث هو انني لم اسأل كثيرا ,ولقد اخبرني ,وكان الاجدر به ان يضحك كثيرا عندما اخبرني ...ان اسمها السيدة غليمور ...السيدة راشيل غليمور .وانت تعرف ان اسم راشيل ليس اسما مألوفا .
_وسأل جويل :
_هل هذا هو كل شيئ؟
اجاب فرانسيس :
_لا !قال انها قادمه من يوركشير ,وانها تعمل في قريه تسمى لانغثويت كمديرة منزل في بيت كولونيل متقاعد .
واخذ جويل يكرر الكلمات نفسها :
_مديرة منزل في بيت كولونيل متقاعد !
_نعم ,هذا ماقاله لي .
_ربما تكون اخطأت ؟
_اؤكد لك اني رأيتها .

_لا اقصد ذلك .انما اقصد العمل الذي تشتغل به ,انت تعرف يافرنسيس ان راشيل كانت تدرس في الجامعه عندما ...
واكمل فرانسيس الجمله :
_عندما هجرتك ...اليس كذلك ؟ولكن كيف تعلم اذا كانت اكملت دراستها ام لا ؟كان ذلك منذ ست سنوات ...وتزوجت وانجبت طفلا .
شحب وجه جويل الاسمر ,وهو ينطق :
_طفل !هل اخبرك ابي بهذه القصه كذلك ؟
واطفأ فرنسيس سيكاره ونظر الى اعلى وهو يقول :
_نعم ,ذلك قد يفسر لماذا تعمل كمديرة منزل .اقصد انه ليس من السهل ان تجد المرأة عملا اذا كان لديها اطفال .
وضاقت عينا جويل تحت رموشه الكثيفه ,وهو يسأل:
_وماذا عن زوجها ؟
هز فرنسيس كتفيه ,وقال :
_كيف لي ان اعرف ؟ربما يكون قد توفي .قال ابي انها ارمله .
وخطا جويل عبر الغرفه ,وهو يقول :
_ارمله ...لا اكاد اصدق ذلك ,هل انت متأكد ان هذا كله لم يكن الا خدعه ماكره لتحقيق نزواته ؟
_ماذا تعني ؟
هز جويل رأسه ,واجاب :
_لا اعرف كان ابي يكرهني لانني كنت اعارضه .
_لا اعتقد ان اباك كان يكرهك ,ياجويل !

_بل اعتقد ان رغبته في الزواج من راشيل لهذا السبب بالذات .
_انك مجنون .
_هل تعتقد ذلك ؟
كانت ملامح جويل ,وهو يتكلم مشبعه بالحقد ,واضاف :
-هل هذا هو كل شيء؟
اجاب فرانسيس :
_ما الذي تريد ان تسمعه مني ...بعد ذلك ؟
_ما الذي قاله ابي عندما اخبرك ؟
_اخبرتك بكل ما اعرف .
_لكنك لم تخبرني ,كيف رأيتهما معا في الليله الماضيه ؟
تنهد فرنسيس , وقال :
_كان ذلك مصادفه وابي لا يعرف انني رأيتهما .
_وماذا بعد ؟
_كنت ذاهبا الى فريديز ,وكنت بحاجه الى المال .
_كالعاده ...
_تذكرت بيري سيمونز فجأة .

كان بيري سيمونز صاحب مطعم ,بيروكيوس ,وكان جويل يعرف ذلك ايضا .
_ذهبت الى هناك لاني كنت انوي اقتراض مبلغ من المال .وهناك رأيتهما .
_وتركت المكان ؟
_نعم !
_كم كان الوقت عندئذ؟
هنا نظر فرنسيس الى ساعته ,وقال :
_حوالي الحادية عشرة .
_ولكن الساعه الان الثامنه والنصف !اذن ماذا كنت تفعل خلال تسع ساعات ونصف الساعه ؟
هز فرانسيس رأسه , وقال :
_لم اكن اعرف ماذا اعمل ؟ولم اكن اعرف هل اخبرك بما حدث ام لا ؟
_ولم لا ؟
هز فرنسيس رأسه وقال :
_لقد...سرت ...اميالا ...ووصلت الى شقتي حوالي الرابعه وكان بوسعي ان اطلبك في الهاتف عندئذ ,ولكنني ظننتك مشغولا .
لم يكن ما يقصده فرنسيس بخاف على جويل ,وكانت شفتاه ترتعدان ,والقى نظرة اخيره الى اللوحة الخاصه بالسيده انطونيا ,ثم سار عبر المرسم الى الباب المؤدي الى الجزء الاساسي من الشقه ,وقال بصوت متثاقل :
_حسنا ,سأصنع بعض القهوه ,اعطيت هيرون اجازه الليله ,وعلى ذلك فانه لن يعود الا متأخرا ,ويمكننا ان نواصل حديثنا في المطبخ ان شئت .

عرف جويل فيما بعد ان راشيل عادت الى يوركشير ووجد ان اباه لم يكن ممانعا في الحديث عن السيده غيلمور عندما اكتشف ان ابنه الاصغر اخبر جويل بالخطط التي كان ينوي السير فيها .واضطر جويل ان يمسك لسانه وان يسيطر على قبضتي يديه عندما وقف امام ابيه بوجهه الذي يعبر عن الاعتداد بالنفس ,ولو كان هناك بقية من شك في صدق ما قاله فرنسيس لزال هذا الشك تماما اثناء المقابله التي تمت بينه وبين ابيه .كان جيمس كنغدوم راضيا تماما عن نفسه .
ووجد جويل ان غضبه تركز على راشيل بعنف يكاد يصل الى الرغبه في تدميرها ,كيف تجرؤ على ان تفعل هذا به؟لابد انها كانت تكرهه الان كما يكرهها وتحقد عليه بالدرجه نفسها من الحقد الذي بدأ يشتعل في نفسه ازاءها .
ورغم ذلك لم يكن ليسمح بسهوله بان يحدث ما كان وشيك الحدوث .وجد نفسه يدافع باستماته عن حقوق فرانسيس ,ولم يكن ليصرح بدوافعه الحقيقيه التي لم تكن تقل انانيه ,لو ان راشيل كانت قد تزوجت بالفعل ,وانجبت طفلا ,فهي تكون بذلك قد اثبتت خصوبتها ,وابوه كان لايزال قوي الصحه مكتمل الرجوله ,كانت زوجتان تكفيان اي رجل في رأيه ناسيا انه لو لم تمت امه عقب ولادته مباشرة لما فكر ابوه في الزواج مرة اخرى .

كان قد مضى ثلاثة ايام تمكن فرانسيس خلالها من اكتشاف اسم مخدوم راشيل هو الكولونيل فرنشاو .وعرف ان هذا الكولونيل يعيش في مبنى الاولد هول في لانغثويت واعتقد جويل ان الوصول الى ذلك المكان لن يكون بالامر العسير .
وحاول في الحاح ان يستجمع في مخيلته صورة الفتاة التي قرر ان يقترن بها ذات يوم .وكانت السنوات الست التي مضت قد وضعت نقابا مشوشا على ملامح راشيل ,كان يستطيع ان يتذكر بعض التفاصيل حول راشيل .ولكن من الصعب عليه ان يصيغ تلك التفاصيل في منظور صحيح .
ست سنوات كانت بمعيار الزمن ,فترة طويله ,كيف تبدو الان وهي في الرابعه والعشرين او الخامسه والعشرين من عمرها ,لابد انها تستطيع ان تتذكر ,كانت اصغر منه بعشر سنوات ,ولكنها كانت تسيطر عليه , وهي مازالت بعد صغيره في تلك السن ,لم يكن لأمرأة قبلها او بعدها شيء من تلك السطوة على شخصه ,ومضى في هواجسه ,عندما يقابلها في الغد سوف يجعلها تعلم انها قضمت باسنانها اكثر مما يستطيع فمها ان يمضغه عندما قبلت ان تقف منه موقف التحدي ,كيف تجرؤ على ان تتخيل انها يمكن ان تصبح عضوا في اسرته بدون ان تثير ردود فعل منه ؟واستولت عليه الفكرة ,والحت عليه ...ولم تتركه الا بعدما جمدت اطرافه من نوبة الغضب ... 
***********************
  الفصل الثانى

2_ عمر سارة

وفي الصباح التالي كان من اليسير عليه أن يسأل السيدة هاريس عن موقع الأولد هول , ورفعت السيدة هاريس حاجبيها وهي تقول:
"تقصد منزل الكولونيل فرنشاو ؟ هل انت صديق له يا سيد كنغدوم ؟"
وأجابها وهو يزدرد اليمونه الهندية التي أمامه:
"ليس بالضبط ,اعرف شخصا هناك .. يعمل لديه "....
"لابد انه السيد هانسون .. هل هو ذاك يا سيدي؟"
هز رأسه إلى الأعلى وقطب وجهه , وأجاب:
" هانسون , لا اعرف أحدا بهذا الاسم "
وزمت السيدة هاريس شفتيها, وهي تقول:
"لا تعرف, أن السيد هانسون سكرتير الكولونيل فرنشاو , انه شاب مثقف , ويأتي الى هنا احيانا في عطلة الاسبوع"
وازداد وجه جويل تقطيبا , وعلق في تردد:
- "حقا ؟ لا! إن الشخص الذي اعرفه هوـ في ظني مديرة منزل الكولونيل."
وانفجرت اسارير وجه السيدة هاريس وصاحت:
"السيدة غيلمور ؟"
وركز بصره على الليمونه الهندية , وقال:
"صحيح."
ورفعت السيدة هاريس حاجبيها وقالت:
"لا اعرف عن السيدة الشابة اكثر من التحية التي نتبادلها أحيانا"
كان جويل يفكر بسرعه, وعلق على اجابتها:
"ولكن , هل يوجد اخرون يعملون هناك , اعني في الأولد هول ؟"
"على حد علمي , لا ! هناك فقط الكولونيل فرنشاو والسيد هانسون , والسيدة غيلمور بالطبع , أوه والصغيرة سارة "
وشعر جويل بوخز في أعصابه , فسألها:
"اهي ابنه السيدة غيلمور ؟"
"نعم... وأنت تعرف ذلك ؟"
لم يجب جويل بشيء .. إذا فالطفل أنثى واسمها سارة , ووجد نفسه يلح على السيدة هاريس ليجرها إلى الكلام:
"كنت تنوين أن تخبريني كيف أجد الأولد هول ؟"
وأومأت بالموافقة , ورفعت من أمامه صحن الليمونه الهندية , ووضعت بدلا منه صحنا آخر فيه قطعة من اللحم , وشيئا من البيض والسجق والطماطم, كان ذلك الطعام في العادة يثير شهية جويل , ولكنه بعد الليلة القلقة التي قضاها كان يحس بالغثيان , ومع ذلك أرغم نفسه على الطعام وبدأ باللحم:
"لو انك تتبعت طريق كراغستون لمسافة ميل فسوف تجده على يسارك . انه البيت الوحيد لأميال عديدة"
" أشكرك "
وسكب جويل لنفسه بعض القهوة , كانت الساعة تشير إلى الثامنة ونصف . خطر له أن الـتاسعة قد تكون وقتا مبكرا لا يسمح بالزيارة . فكر في الاتصال بالهاتف, ولكنه كان يريد أن يرى الانطباع الذي يرتسم على وجه راشيل عندما تراه,
وكان يريد أن يستشعر نشوة الزهو التي تتملكه عندما يواجهها بنظرات الاحتقار.
كان الصباح لطيفا في ذلك الوقت الباكر من شهر مارس/ آذار, وقرر أن يلبس سترة تنسجم مع سرواله الأزرق الغامق , واخذ يدفع ذراعيه في أكمام السترة بينما عيناه تتفحصان ساحة القرية,
تحت أشعة الشمس الساطعة , ووقعت عيناه على زهور النرجس البرية وعلى أزهار بيضاء وصفراء تنمو في كل شبر من الأرض أما المباني فكانت تبدو نظيفة معتنى بها.
لم يكن العثور على طريق كراغستون أمرا صعبا بعد إرشادات السيدة هاريس ووصل إلى مبنى الأولد هول . كان الدخان يتصاعد بشدة من المداخن, دليلا على أن بعض سكان المنزل استيقظوا, وكانت هناك حافلة صغيرة قديمة تنتظر في الساحة الأمامية, , وبوابات صدئة من الحديد انفجرت تاركة المدخل مفتوحا على مصراعيه .وتوقف جويل بسيارته أمام تلك البوابات مباشرة. غير واثق إذا كان ينبغي عليه أن يترك السيارة في ذلك المكان أم لا ؟ ولكنه عندئذ أرخى الكابح وولج بسيارته بين أعمدة البوابة , واندفع فوق الممر المفروش بالحصباء ووقف إلى جوار الحافلة الصغيرة.
وترجل من السيارة, ووقف لحظة ينظر إلى النوافذ المطفأة. إذا, هذا هو المكان الذي تعيش فيه . منذ متى ؟ السنتان الأخيرتان أم السنوات الثلاث الأخيرة ؟ ودفع كتفيه إلى الخلف وواصل حديثه مع نفسه : منذ موت زوجها, دون شك, وغليمور؟
من يكون ؟ ماذا كان عمل ذلك الرجل الذي تزوجها لتلك الفترة القصيرة ؟ ولماذا تزوجته ؟ هل أحبته ؟ لو كان الأمر كذلك , فلا شك أن الحب كان يعرف طريقه إليها بأسرع مما كان يعرف طريقه إليه ,
ومشى إلى مدخل المبنى . وبدأ يشد بقوة حبل الجرس , وسمع رجع الصدى يتردد في جنبات المبنى , كان الصوت كفيلا بإيقاظ الموتى.
وفتح الباب شاب نحيف يميل شعره إلى الحمرة ووقف ينظر إليه في ترقب وقال:
"نعم ؟"
وشعر جويل بشيء من الاضطراب وتعثر في الكلام لحظة ثم ملك نفسه وقال:
"أريد أن أتحدث إلى السيدة غيلمور"
ورد الشاب في الحال:
" راشيل! "
اجاب:
"نعم راشيل!"
وبدا أن الشاب كان يضمر له عدم الود , إذ أجابه:
"إنها مشغولة الآن , تستطيع أن تأتي فيما بعد"
وتذرع جويل بالصبر وقال:
"أرجوك أن تبلغها أن شخصا من آسرة كنغدوم يريد أن يتحدث إليها . اعتقد انك ستجدها راغبة في الحديث إلي.".
ونظر إليه الشاب بشيء من البرود واخذ يردد:
"كنغدوم , آنت احد أقارب جيمس كنغدوم ؟"
وأجاب جويل وهو يهم بالاقتراب من عتبة الباب:
"نعم , والآن , هل تبلغ رسالتي من فضلك ؟"
وهز الشاب كتفيه, واستدار ليعبر الردهة الفسيحة في مدخل المنزل , أما جويل فأسند كتفه إلى دعامة الباب . لا بد انه هانسون الذي تحدثت عن السيد هاريس , كان يبدو اصغر سنا مما كان يتوقع.
وسمع من خلفه صوتا يقول:
"هل طلبت ان تتحدث الي ؟"
ودفع رأسه في استدارة الى الوراء . لم يكن قد أحس باقترابها , ومع ذلك كانت راشيل , كانت تقف عند المدخل مباشرة ,واضعه يديها في جيوب مريلتها القطنية المخططة , وجهها اكثر نحافة مما عرفه , متوردا بشكل ظاهر في بعض أجزائه وشاحبا بما يشبه الموت في مواضع أخرى
وكان جسمها أكثر نحافة ,ولكن شعرها الحريري الأشقر أصبح حبيسا الآن في عقدة قاسية تتدلى على مؤخرة عنقها واعتدل جويل في وقفته بعض الشيء وسمح لعينيه أن يتفحاصانها بطريقة تنم عن ازدراء مقصود, وعلق بسخرية:
"شيء جميل حقا , السيده غيلمور واقفه امامي ؟ "
"ماذا تريد مني يا جويل ؟ هنا مكان عملي ,وعندي من العمل ما يشغلني."
كانت انفاسها تضطرب وهي تتحدث بسرعة, ولاحظ جويل ان هانسون يرقب من الداخل , وعندئذ نفذ صبره وقال بقسوة:
"ينبغي ان تتخلصي من كلب الحراسة الذي يرقبنا , وتخرجي لتتحدثي إلي , لست انوي أن اسمح بهذه المناقشة تحت بصر احد ؟"
عندئذ جاء صوت من الداخل ينادي:
"راشيل!"
كان هانسون على وشك أن يتدخل ولكنها أشارت إليه ألا يزج بنفسه في الموضوع , وتحدثت الى جويل:
" اعتقد انك جئت تطلب تفسيرا "
" يا لك من شيطانه ! هذا حق , إنني فعلا أريد ذلك "
" لكن أباك وعد إلا يخبرك "
" حقا ؟ انه شيء عظيم منه "
" ولكنه أخبرك بالفعل "
" لابد أن أصحح لك , فلقد رآكما فرنسيس معا "
" آوه ! يالله! "
وحدق جويل فيها ببرود , وهو يقول:
"ان الله لن يقف بجانبك الان ......هل تتخلصين من صديقك هذا ؟ ام تتركين لي ذلك ؟"
واجابته بشيء من التردد:
"لا استطيع ان اتحدث اليك ... الكولونيل ينتظر طعام الافطار الآن و .... و "
" راشيل! انني احذرك.... "
ولوت يديها المتشابكتين توجعا , وهي تقول:
"حسنا , ياجويل ... حسنا ... سأتحدث إليك .... ولكن ليس الآن ... ولا هنا ... وليس بهذه الكيفية"
ونظرت إلى الوراء من جديد نظرة خاطفة ثم قالت:
"هل تأتي فيما بعد ... هذا المساء ان شئت ؟"
لم يكن يعجبه ان تقف حيث كانت تتحدث عن افطار الكولونيل , ولكنه يدرك انه لو فقد شعوره واحدث صخبا في المكان فما كان ذلك يغني شيئا , كان يعلم كذلك إن المكان ملكية خاصة لا قبل له بالبقاء فيه دون موافقة المالك , وإلا كان متعديا على ارض الغير , وضبط مشاعره بصعوبة بالغة وقال:
"حسنا بعد الظهيرة, اذا , في أي وقت بالضبط ؟"
وهزت راشيل كتفيها بشيء من العصبية وهي تقول:
"لا ادري , ربما توافقك الثانية ؟ او الثانية ونصف ؟"
"اذن في الـثانية"
قالها جويل بشيء من العبوس دون ان ينطق بكلمة أخرى, ومشى بخطوات واسعة نحو السيارة.
امضى جويل الصباح عند غدير وجده على بعد أميال أخرى عن الطريق إلى كراغستون , ولم يعد الى لانغثويت , رغم انه أحس بأن الاحتياجات الطبيعية لجسمه تستدعي ذلك , ورغم انه شعر بالجوع منذ الواحدة ظهرا اكتفى بسيكار وبعلبة من الشراب كان يحتفظ بها للطوارئ.
وعند الـثانية إلا ربعا نهض, ونفض التراب عن ثيابه , واتجه إلى السيارة . كانت السماء غائمه والتوت شفتاه تعبيرا عن الضيق من الطقس , وقفل راجعا تجاه لانغثويت
وعندما بلغ قمة الطريق حيث كان بمقدوره ان يرى مبنى الأولد هول من أعلى على هيئة كتله رمادية منبطحة , كان المطر ينزل بغزارة.
وتوقف بسيارته إلى جانب الحافلة الصغيرة الرثة, وبدلا من أن يرتجل ويتجه إلى الباب اخذ يستخدم بوق السيارة ليعلن وصوله , كان هذا السلوك يدل على شيء من الغطرسة, والتكبر , وكان على وعي بذلك , ومع هذا كان في قرارة نفسه يعلم أن راشيل لم تكن لتنزعج آو تشعر بالتهديد من سلوك تعتبره محاوله غير ناضجة قصد بها إثارتها.
تنهد جويل ثم دفع باب السيارة, وخرج منها , وعندما ابتلت كتفاه بقطرات المطر زاد عبوسا وتقطيبا , وهرع تجاه الجزء المسقوف من مدخل المبنى, فأنفتح الباب حال وصوله , وظهرت راشيل , وأخذت تصطنع شيئا من الدهشة لرؤيته عند المدخل ولكنه كان مقتنعا بأنها كانت تنتظر نزوله من السيارة قبل أن تظهر على الباب.
واحتمى بالجزء المسقوف بينما كانت هي تغلق الباب خلفها . وعلق بشيء من البرود :
" ذكية ! ولكن بشيء من الطفولة "
ورفعت بصرها اليه , وهي تقول:
"عم تتحدث ؟"
وكاد جويل أن ينهرها بقسوة, لكنه لاذ بالصمت واكتفى بأن هز رأسه , كانت لا تزال ترتدي القميص والسروال اللذين كانت تلبسهما في الصباح, واستبدلت بالمريلة سترة من البوبلين محلاة بفراء , وأحس للحظة قصيرة بمشاعر الحنو والشفقة تجاهها , وسألها:
"هل تنتظرين حتى احضر السيارة الى المدخل ؟"
وهزت رأسها وهي تقول:
"تعودت على السير تحت المطر , هل نذهب ؟"
وبادرت فخطت خارج المدخل المسقوف, وصار يخطو أمامها بخطوات واسعة ليفتح باب السيارة , وصعدت إلى المقعد الأمامي دون أن تنظر إليه , وأغلق الباب خلفها بشيء من العنف الظاهر ثم دار حول مقدمة السيارة ليتبعها.
وعندما استقر على مقعده ,بدأ يتفحص كتفي سترته, ووجد إنهما ابتلتا, فخلعها, والقي بها بشيء من الإهمال على المقعد الخلفي, واقترح عليها أن تفعل بالمثل , ولكنها رفضت بصمت . وهز كتفيه وهو يدير المحرك , وتوقف عند البوابة عندما قالت:
"الى اين تاخذني ؟ علي ان اعود الى هنا خلال ساعه"
ونظر إليها في غضب وهو يعلق:
"ساعة ؟"
"نعم ساعة , سارة لا تنام أكثر من ذلك في فترة ما بعد الظهيرة . ولابد أن ارجع قبل أن تصحو من النوم"
لم يعلق جويل بشيء, واكتفى بان اخذ يقود مسرعا على الطريق تجاه المكان الذي أمضى فيه صباح ذلك اليوم , فقد كان موقعا يسمح للسيارة بالانتظار بعيدا عن الطريق , لأنه في بقعة منعزلة وهذه ميزة كبيرة... ولم تنطق راشيل بكلمة طوال الطريق ,وخطر لجويل إنها ربما كانت تحاول أن تصوغ قصة تبرر موقفها عندما تتحدث إليه, واخذ يقاوم رغبة تعتمل في نفسه بين الحين والحين ليتوقف على الطريق طالبا إليها أن تكف عن اصطناع ذلك الدور .
"حسنا مالقصة الكاملة اذن ؟"
وتشابكت راحتا راشيل , ورددت:
"ماذا تقصد ؟"
"انك تعرفين ما اقصده ! أريد أن اعرف كيف بلغت الصلة بينك وبين آبي إلى الحد الذي جعله يطلبك للزواج منه ؟"
ورفعت راشيل كتفيها النحيلتين, وقالت:
"مضى على معرفتي به سنوات طويلة وأنت تعرف ذلك يا جويل"
اخد جويل يلوك طرف السيكار بقلق , ثم قال :
"لأنني قدمتك إليه ؟ لكن هذا لايكفي للتفسير , استطيع ان اعد على أصابع اليد الواحدة عدد المرات التي قابلت فيها أبي من خلالي , وأنت تعرفين ذلك!"
"اعرف ... اعرف انك .... لماذا تستغرب ان يطلب ابوك الزواج مني ؟ كان دائما يستلطفني"
وبدا فم جويل يعاني من الوهن ,وخرجت منه عبارة:
" راشيل! ارجوك بالله!"
ووضعت يدها على اذنيها حتى لا تسمع, ونطقت:
"اوه , ياجويل , ارجوك ان تكف ! لم جئت الى هنا ؟ ما الذي تريده ؟ كل ما بيننا قد انتهى منذ زمن بعيد , وليس من حقك ان تحاسبني"
وحدق فيها بغضب وقال:
"ألم يحدث أنني ؟ يا الهي ! انك لا تشعرين ! هل كنت تظنين حقا أن بإمكانك ان توافقي على الزواج من آبي دون أن تثيري ردة فعل مني ؟"
"وما علاقة هذا بك ؟"
"أنت تريدين أن تكوني زوجة آبي , أليس كذلك ؟ انك تحبين آبي الآن كما قلت يوما ما انك تحبينني ! اظهري على حقيقتك يا راشيل ! هذه محاولة خبيثة للانتقام ؟"
وردت بانفعال:
"لنفرض أن هذا صحيح , ما الذي تستطيع أن تفعله ؟"
وساد الصمت لحظات قليلة , واخذ جويل يحملق بعبوس من نوافذ السيارة إلى المطر المنهمر , ولم يكن ليصدق ما حدث ؟ لم تكن أخلاق راشيل , ولكن سنوات طويلة مضت منذ انفصلا , وتزوجت هي بعد ذلك وأنجبت طفلا وتنهد ثم قال بهدوء:
"اخبريني , لماذا احتجبت عني هكذا , ما الذي فعلته بحقك لأثير فيك هذه الرغبة في الهرب مني ؟"
واخذت راشيل نفسا عميقا وقالت:
"أنت ! تسألني هذا السؤال ؟ ما فائدة الكلام الآن , يا جويل؟ دفن الماضي والذي يعنيني الآن هو المستقبل , وتصلب فك جويل وقال:
"على حساب أي إنسان أخر ؟"
" هذا غير صحيح , آنت لا تفهم شيئا عن هذا "
"إذن, اخبريني! "
أخذت راشيل تطوي ثنيات سترتها ,وقالت:
"سوف أتزوج أباك يا جويل , ولن يغير ما تقوله أنت شيئا من هذا"
وأطبقت قبضتا جويل وهو يتمتم بقسوة:
" لابد انك يائسة تماما يا راشيل "
"تماما"
والتفت ينظر إليها ولاحظ الخطوط الغائرة في وجنتيها وعينيها اللتين تفقدان اللمعان والبريق , لم يكن ذلك الوجه وجه عروس تستعد لعرسها وسألها:
"هل ذلك بسبب النقود ؟, لو كانت كذلك فأنني على استعداد لأن اقدم ما تحتاجينه منها"
والتوت شفتاها بشيء من الازدراء وقالت:
"لو كنت رجلا لطرحتك أرضا على هذه القحة في حديثك ! انأ لست المرأة التي تتزوج بأي رجل من اجل النقود .أن لك أن تزهو بنفسك يا جويل , انك مغرق في الزيف"
بلغت الاستثارة من جويل مبلغها, وامسك بمعصمها بين أصابعه وأحس بعظامها الهشة ترتعد في يده ... ولكنه لم يكن ليتصرف بطريقة وحشية كان له عقل , وكان يريد أن يستخدم ذكاءه وأحس بالحاجة إلى أن تتلوى أمامه وضغط على معصمها فأجفلت ولكنها لم تصرخ ,
واقترب منها بطريقة جعلته ينشق رائحتها , وادرك الاستثارة التي أوشكت أن تتقد بداخله وأحس بشيء من الاشمئزاز من نفسه , فاسترخى في مقعده وعاد يسألها في عناد :
" أريد أن اعرف شيئا عن زوجك , وعن الطفل , هل مات غيلمور ؟ يقول أبي انك أرمله" .
كانت في ذلك الوقت قد أخذت تدلك معصمها وأجابت:
" انا ارمله بالفعل ."
" وماذا كان اسم زوجك ؟"
واعتراها شيء من الدهشة وقالت:
" اسمه ؟ انك تعرف اسمه ؟"
ونظر إليها نظرة تتسم بالبرودة , وألح :
"غيلمور ؟ هل هذا الاسم الذي كنت تنادينه به ؟ غيلمور!"
واحمر وجهها وقالت :
" أوه ! بالطبع لا . اسمه الأول كان ألن ."
" ألن غيلمور ؟ وماذا كان يعمل ؟"
وبدا على راشيل شيء من الحيرة وسألت :
"هل هذا شيء مهم ؟"
" اعتقد ذلك ."
وتنهدت وقالت :
" كان مهندسا . كان يعمل لدى الدولة ."
وبدا كما لو كان قد استساغ العبارة الأخيرة , وقال :
" افهم , ولكن كم دام الزواج ؟"
" سنتين او ثلاثة سنوات , ولكن ماذا يهم في ذلك الآن ؟"
لم يكن جويل يدري سر فضوله , وربما كان وراء ذلك رغبة سادية جعلته يستشعر اللذة في إجبارها على الحديث عن موضوع يجلب لها الألم , وقال يسبر مشاعرها :
" لابد انك عانيت كثيرا في تحمل مسؤولية تربية الطفلة وحدك , هل هذا هو الذي جعلك تقبلين العمل كمديرة منزل لدى الكولونيل ؟ ألهذا تتزوجين أبي ؟ من اجل سارة ؟"
وزمجرت بعنف :
" لا تتجرأ على ذكر اسمها ! انك لا تعرفها , ولا تعرفني انأ أيضا , لماذا لا تنصرف إلى حال سبيلك , وتتركني وحدي .
" أريد أن اعرف ."
" إن الأمر لا يعنيك ."
" عليك اللعنة ! هل تظنين ان الأمر لا يعنيني ؟ من حقي أن اعرف ."
ازداد صوتها عندئذ حدة , وهي تقول :
" حقك ؟ يا جويل , ليست لك حقوق على الاطلاق , فقدت هذه الحقوق عندما ... عندما .... ."
وتضاءل صوتها , واستدارت بعيدا عنه وصارت تحدق في راحتيها واضافت :
" هل تعود بي , من فضلك ؟"
وانتصب جويل في مقعده , وهو يحدق في منظرها الجانبي . وأحس بأنه قريبا جدا من الحقيقة . كان للحظة واحده على وشك أن يعرفها , كاملة , وأحس كأنه يعرفها في قرارة نفسه وكان يبتهج بها , ولكن راشيل تراجعت ثانية وشعر بالإحباط
وتمنى لو كانت راشيل رجلا ... إذ لأجبره بالقوة على أن يبوح بما يداخله , ولكن راشيل امرأة بكل ما تعنيه الكلمة من معنى , وعليه أن يجد سبيلا ليطلق العواصف المكبوتة التي تشد لسانها عن الكلام , لكن كيف يتوصل إلى ذلك ؟
كانت راشيل قد ملكت زمام نفسها ثانية , ونظرت إلى وجهه نظرة خاطفة وقالت للمرة الثانية :
" هل تعود بي ؟"
وأجاب بشيء من التوتر :
" ليس بعد ."
وبدأ يستعرض في ذهنه كل ما قيل . ويحاول أن يجد مما قيل مفتاحا يفتح له الباب المغلق , ما الألفاظ التي جعلتها تثور بتلك الطريقة ؟ عم كانا يتحدثان ؟ عن زوجها ؟ عن غيلمور ؟ نعم و ... الطفلة .
حاول أن يتذكر ما قاله عن الطفلة , لأنه ذكر أنها ستتزوج من أبيه من اجل الطفلة , تفجر غضبها ؟ إذن فليحاول مرة أخرى , وقال وهو يبحث عن سيكار أخر :
"ومتى يتم الزواج ؟"
وتنهدت بشيء من القلق ,وقالت :
" لا اعرف الموعد بالضبط , ولكن خلال أسابيع قليلة ."
" وحتى ذلك الحين ستظلين هنا ؟"
"أنا ... ربما ... ."
وسيطر جويل على غضبه وقال :
" وسارة .. هل تعيش معك عندما تتزوجين ؟"
وحدقت فيه بغضب وقالت :
" بالطبع . وهل يمكن أن تعيش في أي مكان أخر ؟ أوه ! كف عن هذا يا جويل ! أريد أن أعود ... طال بي الوقت , وقد تستيقظ سارة ."
ورد في شيء من البرود :
" انا واثق ان هانسون سيكون سعيدا للغاية إذا ما وجد الفرصة ليعني بها بعض الوقت , ومع ذلك لم تعد رضيعا كم عمرها الآن ثلاثة سنوات ؟ اربع ؟ لا شك أنها تقدر أن أمها يمكن أن تتغيب أحيانا ؟
صارت راشيل تنشق انفاسها بطريقة تدل على القلق , وقالت :
" هل تنوي الآن أن تعود بي ؟"
وكررتها بشيء من الارتجاف .
" وإذا قلت لا ؟"
" يمكنني أن أعود سيرا على الأقدام لست خائرة القوى ."
واتجهت يدها إلى مقبض الباب ولكنه كان اسبق منها , ومد يده ليمنعها من فتحه ورغم أنها انكمشت إلى الوراء لتتجنب ملمسه , وضح انه كان يتعمد أن يلامسها , وسأل بشيء من السخرية :
" ما الحكاية يا راشيل ؟ إذا كنت ستصبحين زوجة أبي فما الذي يمنع أن يألف احدنا الآخر بطريقة أفضل , ولعلني ما زلت اذكر جيدا , كيف كنت فيما مضى تحبين أن المسك كثيرا ."
وصارعت كي تحرر نفسها , أنفاسها تتدافع بقوة أما هو فرغم نداء العقل الذي كان يحذره من الطريقة التي كان يتصرف بها , وصرخت فيه :
" ابتعد عني , كان ينبغي أن اعرف أن النهاية ستكون هكذا , هذا هو كل ما تصلح له يا جويل , أليس كذلك ؟"
" ماذا تعنين عليك اللعنة !"
وقالت وهي تكاد تختنق :
" إنني أقول الحقيقة انك تريد كل شيء في مقابل لا شيء , أليس كذلك ؟"
" عم تتحدثين ؟"

كان يمسك بكتفيها الآن , وبينما كان عقله يوسوس إليه بأنه حصل ما يريد فالمنطق الهادئ كان يحذره من الإجابة التي كان ينتظرها , وصار يهزها بعنف , وانحل شعرها من العقدة التي كانت تربطه , وتمتم في صوت أجش :
"راشيل ..."
" ابتعد عني أيها البهيمي ! إياك أن تجرؤ على لمسي !"
وتسمرت أصابعه على كتفيها وهو يقول :
" راشيل ! راشيل ! لا تخشي مني ! يا الهي .. لقد أحببتك من قبل , فكيف اوذيك ؟"
وخلصت نفسها منه وهي تقول :
"هل اصدق انك لا تفعل ذلك ؟ أتظن إنني أصدقك ؟"
وألح عليها بصوت أكثر حدة :
" لم بحق الله ؟ ما الذي فعلته بك ؟ قولي لي إن كان شيئا من ذلك قد حدث ؟ لقد هجرتني ؟ أنت التي هربت دون أن تخبري أحدا بالمكان الذي ذهبت إليه ! يا الهي لقد كدت اجن ."
وتجمدت شفتا راشيل , وقالت :
" انك لا تفهم يا جويل ! حتى اللحظة الحاضرة ليس لديك أي فكره عما أتكلم عنه . إن سارة ليست ابنة الـثانية او الـثالثة من العمر ! عمرها الآن خمس سنوات ... هل تفهم ما يعنيه ذلك ؟"
وارتخت يدا جويل على كتفيها , وقطب حاجبيه وظهرت خطوط غائرة على جبهته , وبدا شعور غريب بالألم يصيب معدته , ولم يكن يدري إنها تحدق فيه وتختبر ردود فعله , وتتلذذ بإحساسه المرهق بالفزع والشك وعندئذ وجد في التظاهر بالجهل عذرا منطقيا وألح بشدة :
" ماذا تقولين ؟"
ولكن نشوة راشيل بالنصر لم تدم طويلا , وحركت كتفيها يائسة وهي تتمتم في غير وضوح :
" ما كان ينبغي لي أن أخبرك ."
" ما كان لك أن تخبريني بماذا ؟ هل تقصدين أن تقولي ... أن هذه الطفلة .. سارة .. هي ابنتي ؟"
ونظرت إليه راشيل وقد أحست بشيء من الوهن , وقالت :
" وهل تظن أنها تنتسب إلى شخص أخر ؟"
وحرك رأسه في ارتباك وهو يقول :
" غيلمور ! زوجك !"
" لم يكن لي أي زوج , كنت اعمل لدى الكولونيل فرنشاو طيلة السنوات الـخمس الماضية ."
امتدت يد جويل في غضب إلى مفتاح السيارة ليدير المحرك , وكاد خلال ذلك أن يدفع براشيل بعيدا عنه , وارتعد وجهها الشاحب , وقالت :
" ماذا تفعل ؟"
وأجاب في أنفاس مضطربة :
" ما الذي تظنين إنني فاعله ؟ سوف أعود بك . أريد أن أرى ابنتي . إن كانت ابنتي !"
وحاولت راشيل أن توقف يده وجذبت ذراعه بقوة لمدة لحظة وهي تقول :
" آوه لا ! لايمكن أن تفعل ذلك !"
" لن تستطيعي أن تمنعيني ."
" سأمنعك بالتأكيد , سأعمل كل ما في وسعي لأمنعك ."
واضطر إزاء ذلك أن يتوقف لحظة ثم التفت إليها بنظرة فيها شيء من الاحتقار و سأل :
" لم ؟ لم لا أرى ابنتي ؟ هل تخشين أن أراها ؟ هل تخشين أن اكشف كذبك ؟"
" انه ليس كذبا , دعني اشرح من فضلك , دعني أفسر ."
" ما الذي يمكنك تفسيره ؟"
وهزت راشيل رأسها وقالت :
" لماذا تريد أن تراها ؟ انك لا تحب الأطفال , كنت دائما تردد ذلك" .
" ولكن يبدو انه أصبح لي طفلة ؟"
وخاطبته في لهجة متشددة :
" وهل تعتقد أن ذلك يؤهلك لتدعي أن سارة ابنتك ؟ يا الهي ."
ودفع جويل بيديه خلال شعره , لم يكن في طاقته أن يحتمل كل ذلك , ربما كانت خدعه أو مناورة من جانب راشيل لكي تجعله يتلوى , لابد أنها كذلك . وقال في شيء من التوتر :
" حسنا ! إنني اعترف , الأطفال لا يلعبون دورا في نمط حياتي , فانا رسام ولست مربيه" .
" بالضبط ".
"وهل تعتقدين أن هذا يجيز لك أن تحتفظي بوجود ابنتي في الحياة سرا طوال تلك السنين ؟"
أخذت راشيل تندف بعصبية خصلة من شعرها وقالت في ارتعاش عصبي :
" ارجع بذاكرتك إلى الوراء يا جويل , هل بإمكانك أن تتخيل رد فعلك منذ ست سنوات لو انني جئت إليك آنذاك وأخبرتك بأنني انتظر طفلا منك ؟"
وتململ في قلق فمنذ ست سنوات كان لا يزال يشق طريقه , منذ ست سنوات كان الطموح قوة كبيرة بداخله , كان ذلك الطموح مؤثرا , ولكن بشكل مختلف , وفي أية حال .. وتمتم جويل :
" ما كان ينبغي أن يحدث ذلك أبدا ... كان ينبغي أن أتأكد انه لا شيء ينبغي أن يفسد عليك متعتك ! يا الهي ! هل تسمع يا جويل ؟ انك أناني ! وانك جدير بالازدراء ! انك كذلك وسوف تظل دائما كذلك ! هل لي أن أذكرك بأنني لم اعرف ما كنت تنوي أن تفعله معي ؟ لقد وثقت فيك ياجويل ! وكنت أظن انك أحببتني بحق" !
واغتم وجه جويل وحاول أن ينفي عن نفسه التهمة , وهو يقول :
"هذا ليس صحيحا , يا راشيل , لقد أحببتك بحق ! لقد أحببتك ! إن الذي وقع ... وقع ... لان كلينا أراد ذلك !"
ووضعت راشيل راحتي يديها على إذنيها مرة ثانية , وهي تقول :
" لا !"
" نعم ! كنت أريد أن أشاركك حياتي ياراشيل "!
" أشاركك حياتك ؟ أعيش معك ! أيها الدنيء !"
" ربما كنت اقصد فعلا في البداية ."
وقاطعته :
" كنت ستجد شخصا اخر !."
" لا !عليك اللعنة ! كنت سأتزوجك ."
" يا لك من شهم ."
"لم يكن الزواج في خطتي, يا راشيل .. عند ذلك الوقت !"
" ولم يكن الأطفال في خطتك في أي وقت ."
ومد جويل إحدى يديه إلى مؤخرة عنقه , كان يشعر بالاضطراب , بل لم يكن قادرا على التفكير , دمدم قائلا:
"المواقف تغير الأحوال ."

" ماذا يعني ذلك ؟"
" يعني انه إذا ... مازلت أقول إذا ... كانت سارة ابنتي ... فسوف يكون علي أن أغير خططي للمستقبل ."
واتسعت حدقتا عينيها في شيء من الشك , وتساءلت :
" عن أي شيء تتحدث ؟"
" ينبغي بالطبع أن نتزوج ."
وكادت راشيل تقهقه في وجهه وهي تقول :
" نتزوج ! نتزوج ! ما كنت لاتزوجك ولو كنت آخر رجل على الأرض ! يا الهي ! ما أيسر أن يصبح الرجل مغرورا! هل تظن بأمانه أنني يمكن أن أتزوجك ألان ؟"
وامسك جويل بساعديها بقبضة تنم عن الشعور بالإثم وهو يقول بغضب شديد :
"ليس من حقك أن تتكلمي كثيرا في هذا الموضوع ."
" ألا يحق لي ذلك ؟ وماذا يكون رأي أبيك ؟"
كان جويل قد نسي للحظة السبب الذي جاء من اجله إلى هنا . وأجاب :
" لا يهمني ما يقول أبي , إذا كانت الطفلة لي فهي لي ."
" إنها ليست سلعه تمتلكها يا جويل , إنها إنسان , إنها إنسان خاص للغاية , ولها حقوق. "
" ماذا تعنين ؟"
" اعني إن سارة ابنتي , ربما تكون قد قمت بدور ثانوي في حملي بها , ولكنك لا تستطيع أن تثبت ذلك ."
" ألا تبدو قريبة الشبه بي ؟"
والتوت شفتاها وقالت :
" الحق إنها تكاد تكون نسخة منك !"
وانضغطت عضلات معدته بطريقة غريبة للغاية وأحس بأنه يريد بتهور أن يرى سارة وقال :
" إذن سيكون علي أن ارفع دعوى !"
وهزت رأسها وقالت :
" سوف أنكرها ! وسيكون بإمكاني أن أقول إنها ابنة جيمس ."
كاد جويل أن يضربها عند ذاك وأحس برغبة قوية في أن يفتح بقوة باب السيارة وان يترجل منها إلى الخارج تحت وابل المطر لنشق أنفاسا من الهواء البارد الرطب في تلك الأراضي البور , هل تجرؤ على توبيخه بتلك الطريقة الساخرة بالادعاء بان الطفلة لأبيه ؟ وبقي على تلك الحال القلقة بضع دقائق قبل أن يجرؤ على العودة إلى السيارة ليجلس إلى جوارها مره ثانية ,كان عندئذ قد عاود هدوءه بدرجة واضحة, ولكنه لا يزال عنيدا , وقال في شيء من الثبات :
" أريد أن أرى ابنتي ... سوف افعل ذلك بطريقة أو بأخرى ... لن تستطيعي أن تمنعيني من ذلك مهما قلت أو عملت يا راشيل ."
وظلت صامته لبضع دقائق ثم قالت في هدوء :
" وما الخير في ذلك يا جويل ؟"
وأغلق عينيه في الم مبرح من الانفعالات التي كادت تمزقه . مرت الدقائق الـخمسة عشر الأخيرة وهو يعاني اقسي أنواع العذاب النفسي ورأسه تكاد تتصدع من شدة الكراهية ؟ ماذا تريد هذه المرأة أن تفعل به ؟ وتمتم يحدثها :
"انك امرأة قاسية ... ماذا غيرك ؟"
وأجابته ببرود :
" اعتقد انك تعرف الإجابة لهذا السؤال ... والأن إذا كان من واجبك أن تعود بي ... فهل تعود بي ألان ؟
****************
3_ابي ...ابي ماذا فعلت ؟


غادرت راشيل السياره ,بعدما غابت اكثر من ساعه .وخطر لها ان ساره ربما استيقظت بالفعل وانها بدأت تناديها ,مما جعلها تهرول نحو الباب تختلج في نفسها مشاعر القلق .
وتبعها جويل يخطو بخطى واسعه ,مرتديا سترته الجلديه الزرقاء ,بوجه شارد قاتم ,وهو يقول :
_انتظري ,انني ات معك .
وتوقفت راشيل ,معترضه :
_هذا منزل الكولونيل ,ياجويل .لا استطيع ان ادعوك بلا اذن منه .
نظر اليها جويل ببرود ,وقال :
_اوه ...لا ...هل قلت ذلك لابي ايضا ؟
تنهدت راشيل ,وقالت :
_ابوك ...يعرف الكولونيل فرنشاو .
_اكاد افهم ! شريك في التأمر !
كانت اعصاب راشيل قد اصبحت مشدوده وقالت :
_لاتكن سخيفا ياجويل !سأذهب واخبر الكولونيل !سوف استأذنه .
سبقها جويل الى المدخل وهو يقول :
_لا تشغلي بالك ! لن تجعليني انتظر اكثر من ذلك !
نظرت اليه راشيل بغضب وهي تجتازه ثم توقفا في الردهه الداخليه ,لم تكن تدري ماتفعل كان البيت يبدو هادئا ,وكانت راشيل تعرف ان الكولونيل يهجع للراحه في فترة مابعد الظهر ,واصبحت المشكله كيف تجرؤ على اصطحاب جويل بدون ان تستأذن الكولونيل اولا ؟وقالت :
_هيا بنا ...
كان جويل فاقد الصبر ...خلعت راشيل سترتها وبدأت تصعد الدرج الى سكنها في الطابق الاول ,حيث اتجهت الى باب في نهاية الردهه ,ودخلت الى غرفة الجلوس .وكانت هناك ابواب اربعه تنفتح عليها ,احدهم يؤدي الى غرفة نوم راشيل والثاني غرفة نوم ساره والثالث يؤدي الى المطبخ الصغير والباب الاخير يؤدي الى الحمام ...
وقف جويل في المدخل وقال بصوت اجش :
_اين هي ؟
اجابت راشيل وهي تخشى اللحظه التي يرى فيها الطفله لاول مره :
_ربما لاتزال نائمه .

ورغم ان راشيل لا تزال تحاول ان تؤجل ما لم يكن منه بد ,انفتح باب غرفة ساره ,وقفت ساره بنفسها في فتحة الباب تنظر بعينين طارفتين وشعرها الذي يشبه الى حد كبير شعر جويل يتدلى على كتفيها النحيلتين , اما عيناها القاتمتان بشكل غريب ,ووجنتاها الشاحبتان فان الشبه بينها وبين ملامح اسرة كنغدوم لم يكن ليخطئه احد .
وصاحت الصغيره :
_ماما ؟...ماما ...انت ايقظتني .
تملكت راشيل زمام نفسها ,وهي لا تجرؤ على النظر الى جويل ,الذي كان وجهه العابس صوره طبق الاصل عن وجه ساره ,وقالت :
_اسفه ياعزيزتي ,حضر شخص لزيارتك .
واضطربت رموش ساره الطويله وقالت :
_من؟
ولم تظهر على وجهها ابتسامة الترحيب لتلين من ملامحها العابسه .وانفعل جويل عندئذ:
_انني ...انت ...انك ...انا ...صديق لك .
ونظرت ساره اليه بشئ من الشك وتمتمت :
_ليس لي اصدقاء .
ركع جويل امامها وهو يقول :
_انا متأكد ان لك اصدقاء ...ما رأيك في الكولونيل ؟وما رأيك في
هانسون ؟
اجابت سارة :
_لا احب اندرو ! والكولونيل كهل جدا !
استفسر جويل :
_اندرو ؟
قالت راشيل بشئ من التردد :
_اندرو هانسون .
وعلق جويل :
_وبالطبع لايوجد شخص اخر تلعبين معه ؟
اجابت سارة :
_انا لا العب انني مقعده ,الا ترى ؟
_ماذا تقصدين ؟ما الذي تخفينه عني ؟
وتململت راشيل قائله :
_ساره تعاني من فقر دم بسيط ,هذا كل شيء ,انها تحت العلاج .
وبدا ان جويل لم يقتنع بما سمع ,واستمر يسأل :
_ما نوع مرض الدم الذي تشكو منه ؟
_ليس شيئا خطيرا .
ونظرت راشيل الى ساره نظرة ثاقبه ,واكملت :
ارجوك ياجويل ليس الان !
وظل جويل يلح في السؤال :
_ومن الذي اسماك مقعده ,ياسارة ؟
وبدت ساره وقد اعتراها شئ من القلق ,واتجهت الى امها تسأل:
_ماما ؟
واجابت راشيل بسرعه
_اعتقد انه الكولونيل .
وعلقت سارة :
_سمعتهم في المستشفى يتحدثون ..رجل قال _اين هي ؟وامرأة قالت :من ؟وقال الرجل :المقعدة الصغيره .
وصاحت راشيل :
_اوه ! ساره! ربما لم يكونوا يتحدثون عنك .
والح جويل في السؤال مرة اخرى :
_اي مستشفى ياساره ؟
اجابت :
_المستشفى الذي في هيوستن .
وقاطعتها امها :
_كفى ياساره .
واتجهت الى جويل :
_الا ترى ياجويل انك قلت مافيه الكفايه .
ودمدم جويل مقطبا :
_اريد ان اعرف المزيد .
_ارجوك ياجويل ! لاتثر المشكلات.
كانت ساره قد احست ان اللذان يتحدثان ليسا متعاطفين فقطبت وصارت تسأل في حده :
_ما الحكايه ياماما ؟لماذا تنظر الى ماما هكذا ؟لماذا جئت هنا ؟لست صديقا لي وانا لا احس نحوك بأي حب .
واضطرت راشيل ان توقف ساره وقالت :
_ساره ,هذا لايليق .لابد ان تعتذري للسيد كنغدوم .
اجابت ساره :
_لا احس بانني ينبغي ان افعل ذلك !
وازاحت سارة يد امها ثم سارت عبر الغرفه الى حيث كانت بعض الدمى .كان جويل يرقب الطفله عن كثب ,ووجدت راشيل نفسها ترقب جويل ,ترى ماذا كان رأيه فيها ,تلك الطفله التي لم يكن يعرف بوجودها حتى اليوم ؟هل خاب امله عندما لم يجدها ذات بشرة بيضاء قرنفليه ريانه ,بعينين تشبهان عيني الدميه ,وبشعر مجعد ؟ومع ذلك كان لدى سارة الشيء الكثير ,اخلاصها وحبها وسرعة خاطرها ,واكثر من ذلك كله كنز الحب الذي كان حتى الان يتجه الى راشيل .
وتركت راشيل العنان لخواطرها تتخيل كيف يمكن ان يكون رد فعل ساره لوعلمت ان جويل كنغدوم هو الاب الذي كانت تظن انه ميت .
وساد الصمت لدقائق عديده ,ثم تحدث جويل :
_هل فحصها احد الاخصائيين ؟

_فحصها كثيرون !انها ليست الاولى او الاخيره ,سوف يكون هناك دائما اطفال مثلها .
_ولكن الاخرين ليسوا اطفالي .
ردت راشيل بصوت اجش:
_ولا ساره طفلتك ,ارجوك ان تنسى ذلك !.
_راشيل ان ساره ابنتي كما هي ابنتك ,اما عن الدوافع التي تجعلك تحتفظين بشخصيتها سرا فهذا شيء يخصك ,ولكنني ارى ان هذه الدوافع لن تصمد كثيرا لاي تحقيق يجري امام القضاء .
وهنا التفتت اليه راشيل تقول :
_القضاء ؟اصبحت ساره تعني لك الشيئ الكثير ؟
سأل في عبوس :
_ماذا كان ينتظر مني ؟انا لست قارئ افكار ,كيف بامكاني ان اعرف انك كنت حاملا ؟
_لم تكن تهتم لا بهذا ولا بذلك .
واغتم وجه جويل عندئذ وقال :
_راشيل ,لو انني كنت اعلم ...



_اوه ,نعم ! لو علمت انني حامل ,ماذا كنت تقترح ,ياترى ؟التبني ام الاجهاض ؟
كان جويل يشرع في الخطو تجاهها عندما انفتح باب غرفة الجلوس ووقف اندرو هانسون على عتبة الباب يقول :
_راشيل ,ظننت انني سمعت اصواتا ,اوه .
وكان قد لمح جويل ,واصطنعت راشيل ابتسامه باهته ,وحاولت ان تطمئنه بطريقه كان فيها بعض الحرج وقالت :
السيد كنغدوم على وشك الرحيل ,كان يريد ان يرى ساره .
كانت عينا راشيل تتوسلان اليه ليرد بالموافقه ,لكنه لم يكن على استعداد لذلك التوسل ,كان وجه هانسون يعكس فضوله ,ولكنه استطاع ان يخفي ذلك برجوله ,وهو يقول :
_فكرت ان من واجبي اعلامك ان الكولونيل استيقظ وينتظر الشاي .
اومأت راشيل برأسها ,وقالت :
_شكرا .
واجبرت نفسها على النظر نحو جويل وقالت :
_عليك ان تخرج الان ياجويل !
نظر جويل اليها ثم نظر الى هانسون واستدار ببصره الى ساره وقال :
_اذهبي انت الى عملك ..وقومي بواجباتك !وسأرعى انا ساره .
وجرت ساره عبر الغرفه لتخبئ وجهها بين قدمي راشيل وهي تقول :
_لا اريد ان ابقى معه ,اريد ان اذهب معك .
وتجهم هانسون وقال :
_لا تجزعي ياساره سوف ينصرف السيد كنغدوم طبعا .
رد عليه جويل ببرود :
_من الافضل ان تعني بشؤونك الخاصه ,ياهانسون .
_اوه ارجوك ياجويل !
وحاولت راشيل ان تتوسل اليه ,ولكن جويل تجاهلها ,واستمر يقول :
_هل تتركنا ياهانسون ؟ام ينبغي ان تطرد بالقوة .
كان جويل يخاطبه بشئ من الاهانه ,والتفت الرجل ,وانصرف وهو يردد انه لابد للكولونيل ان يعرف بما حدث وان يقول فيه قولته ,حدقت راشيل تجاهه ,ووقع بصرها على جسم سارة الصغير ,وقالت :
_اوه ياجويل !انصرف قبل ان ترتكب حماقة اخرى !
ورد عليها بوحشيه :
_حان الوقت لتدركي انه لايمكنك ان تدفني رأسك في الرمال بعد ذلك ,هل تعتقدين انني سأقبل ابقاء الطفله هنا ؟ثم انك لم تخبريني بعد لماذا تتزوجين ابي ؟انني اصر على ان اعرف وفي سبيل ذلك لا تعنيني مسألة اللياقه .
اغلقت راشيل عينيها لحظه ,وفتحتهما ثانية ,ثم قالت :
_ليس لدي وقت لمناقشة ذلك معك ,ياجويل !
_اذن ماذا افعل ؟هل ابقى في القريه حتى تجدي الوقت ؟
_لا !اذا كان لابد لك ان تعلم ,فسوف اكون في لندن الاسبوع المقبل .لقد وجد ابوك سكنا خاصا لي ,لاقيم فيه حتى نتزوج .وبعد ذلك _على ما اظن _سوف نعيش في الخارج .
صاح جويل بدهشه :
_في الخارج ؟اين ؟
_اظن ان ...لابيك بيتا ...في احد الجزر اليونانيه ؟
_نعم ,لياركوس,وماذا سيكون حال المصرف ؟
هزت راشيل رأسها وقالت :
_ذلك سيكون افضل لسارة ...
_اذن فالموضوع له علاقه بساره ! لن اسمح لك بهذا .
_انك لا تستطيع ان تمنعني .
_سوف احاول .
نظرت اليه ساره وحاولت ان تغيظه بقسمات وجهها وهي تقول :
_لا احبك .
ورد عليها يقول :
_ان هذا شئ مؤسف لانني احبك ...احبك كثيرا ...
واستدار وترك الغرفه بعدما اومأ ايماءه ساخره من كليهما .
وسمعت راشيل وقع قدميه ,وهو يهبط الدرج ,وسمعت كذلك صوت الباب الخارجي ينغلق وراءه ,واخيرا سمعت صوت زئير محرك المرسيدس القوي ,ورفعت ساره رأسها عندما سمعا صوت السياره يذهب بعيدا وسألت بقلق :
_هل سيكون كل شيئ على مايرام ؟
انحنت راشيل وعانقتها في رقه :
_بالطبع ياحبيبتي !والان علي ان اذهب لاقدم الشاي للكولونيل ,والا وقعت مشكله .
كانت سارة منشغله تماما بما سمعته في حديث جويل ,وسألت امها في شئ من الضيق :
_ماذا يقصد ياماما ؟هل ابوه هو الذي سيصبح ابي ؟هل سيعيش معنا كذلك ؟
_لا ياحبيبتي !
_ولكنه قال بالفعل انك ستتزوجين اباه ؟الم يقل ذلك ؟لقد سمعته ..
-ساره !الرجل الذي كان هنا منذ لحضه هو ابن السيد كنغدوم ,ولكن له بيته الخاص ,وهو لا يعيش مع ابيه .
_ولم لا ؟
_عندما يكبر الناس ويمكنهم الاعتماد على انفسهم ,يعيشون في بيوتهم الخاصه .
_ولكنني لن افعل ذلك !
_البنات عندما يكبرن عادة يقابلن اشخاصا ويقعن في الحب .ثم يتزوجن ويكون لهن بيوت واطفال .
_مثلما فعلت يا امي ؟
ترددت راشيل ثم قالت :
_مثلما فعلت .
_ولكن لماذا مات ابي ؟
تنهدت راشيل ,كان قد مضى وقت طويل منذ ان اثير هذا الموضوع لاخر مرة .وكانت راشيل بعد المقابله بينها وبين جويل غير مهيأة للاجابه عن تلك الاسئله وقالت :
_حبيبتي !علي ان احضر الشاي للكولونيل ,هل تأتين معي او تنتظرين هنا ؟
_سوف اتي معك ,فقط ساحضر هيلغا ,انها تحب ان تتفرج عليك وانت تقدمين الشاي .
كانت هيلغا دميه صنعتها راشيل من قصاصات القماش منذ ثلاث سنوات مضت ,وكانت قد اصبحت رثه وقديمه ,ومع ذلك مازالت مركز اهتمام سارة ,تحرص على اصطحابها الى كل مكان ,واخذت راشيل تنتظر ,وهي تحاول ان تهدئ من قلقها ,كانت سعيده بان لها ما يشغلها ويشغل تفكيرها ,وعندما التحقت بذلك العمل كانت تعلم انها سوف تقابل جويل ان عاجلا ام اجلا ...ولكنها لم تكن تتوقع ان تكون المقابله على تلك الصوره من المرارة والالم .
كان الوقت متأخرا عندما وصل جويل بسيارته الى شارع بيزووتر ,ثم انعطف الى لانكسترميوز وكان قد توقف في احدى مناطق الخدمه على الطريق .والتهم بعض شطائر اللحم اذ كان الجوع والتعب اوشكا ان ينالا من قدرته على القياده ,وكان يريد ان يحتفظ بنشاطه العقلي عندما يعود الى لندن .
جعل جويل السياره تنتظر عند قاعدة الدرج الضحل الذي يؤدي الى الباب وكانت غرفة المكتب الخاص بابيه تقع في الجزء الخلفي من المبنى حيث يمضي معظم وقته ,وكان مع جويل مفتاح للباب وادار المزلاج ,فأنفتح الباب على الردهه ,وكان الدرج المؤدي الى الطابق الرئيسي يقع امامه مباشرة .
سار جويل بقلق عبر باب غرفة مكتب ابيه دون استئذان ,وكان جيمس كنغدوم يجلس خلف مكتبه منشغلا بالعمل .وزال غضب الوالد عندما رأى جويل ...وسرعان ما رسمت ملامح وجهه ابتسامه ساخره كانت تشبه الى حد كبير ابتسامة جويل ...لقد كانا متماثلين ,غير ان وجه جيمس كنغدوم تظهر عليه اثار السن والخبره ,وشعره ابيض تماما ,ونهض يقول :
_جويل !اي مفاجأة .لم اكن انتظرها ...
واغلق جويل باب المكتب ,واسند ظهره اليه ,وقال في تجهم :
_لاتنظر الي هكذا ,انك تعرف لماذا اتيت الى هنا ؟
رفع جيمس حاجبه الكثيف وهو يقول :
_حقا ؟
رد جويل بطريقه يحاول ان يختبره بها :
_دون ادنى شك !
قال جيمس:
_حسنا ؟ترى ما الذي جعلك تفكر في زيارتي ؟اعتقد ان هذه هي الزيارة الثانيه خلال الشهور السته الماضيه .
_اجاب جويل باختصار :
_حياتي مليئه بالعمل .
_انا متأكد من ذلك ,وعلى الاقل بسبب التكاليف التي ارسلها اليك .
وبدت على وجه جويل بعض السخريه وهو يقول :
_اه ,اعترف لك بذلك ,فانا ابن جيمس كنغدوم صاحب مصرف كنغدوم ,ولا شك ان ذلك يحقق لي بعض الامتيازات ,ومع ذلك اجرؤ على ان اقرر ان موهبتي هي التي تضمن العيش لي ,وليس لاسمك في هذا فضل .
اضاف جيمس في شئ من الجفاف :
_ووصية جدتك لامك ؟


_وهذه ايضا على الرغم من انني في السنوات الاخيره اعدت توظيف معظمها .
ومد جيمس كنغدوم يده يتحسس السيكار وهو يقول :
_كم تستغرق من الوقت لتصل الى هدفك من هذه الزياره .لاشك ان الموضوع يتعلق براشيل طبعا ؟
وسأله جويل بلهجه ساخره :
_وكيف عرفت ان هذا هو الموضوع ؟
_لم اعمل ذهني ,اخبرني فرنسيس .
علق جويل :
_اكاد افهم ...وكيف استطلعت ذلك منه ؟
_الحق انني كنت اود ان اراك ...ولما لم اجدك سألت فرنسيس عن مكانك .
علق جويل بلهجه متشككه :
_وهو اخبرك ؟بهذه البساطه ؟
_لا كان حريصا للغايه !وقال انه كان يظن انك ذهبت مع اريكا لمدة يومين .
_ثم ؟
_اجابت اريكا على الهاتف.
_وطبعا لم تكتف بما قاله فرنسيس ,وحاولت ان تتأكد ,وماذا قالت لك ؟
_ما اخبرتها انت به على ما اعتقد ...انك كنت في عمل في يوركشير .
وتكلم جويل ,وكأنه يلعن :
_افهم !لست بحاجه الان ان تذهب الى ابعد من هذا ...بامكاني ان اخمن ماحدث بعد لك ,واستطيع ان افهم لماذا كتم عنك فرنسيس الخبر ؟وفي اي حال فالمهم انني رأيت راشيل ,ورأيت ابنتي !
رفع الوالد حاجبيه من جديد وقال :
_ابنتك ؟!
_نعم ابنتي ...واذا كنت تظن انني سوف اسمح لك بان تأخذها بعيدا عني ,فأنك تخطئ خطأ كبيرا !
رد الاب بهدوء :
_لا اعتقد ان لك رأيا في الموضوع ,ولا تظن ان بأمكانك ان تهددني .
ووضع جويل راحتي يديه على المكتب ,وهو يسأل في تحد :
_تعتقد ان لا رأي لي في هذا الموضوع ؟
تنهد الاب بقلق وقال :
_كف عن التصرف بهذه الطريقه الحمقاء ,يمكنك ان تتفوق علي جسديا ,ولكن ماذا يفيد ذلك ؟هل تظن ان راشيل تعجبها مثل هذه الوسائل البدائيه ,هل يصل بك الامر الى ذلك ؟
_دعنا نستبعد اسم راشيل عن الموضوع مؤقتا ,هل نتفق على ذلك ؟
_لا افهم كيف ؟!ان لها شأنا كبيرا .
وهنا نهض جيمس كنغدوم رغم مشيته على قدميه فقد هيئ له ان منظر ابنه وهو يطل عليه من عل كان يعني تهديدا لكيانه وقال :
_نحن متمدنون ,ياجويل ,حاول ان يكون سلوكك في هذا الاطار .
رد جويل بعنف :
_هل من التمدن ان اقبل بان يتزوج ابي المرأة التي حملت طفلي ؟
_لم تكن تعرف شيئا عن راشيل وهي تحمل طفلك ...يا جويل !
_لكنك انت كنت تعرف !
_في الحقيقه ...نعم .
_ماذا؟ماذا قلت ؟
وتزحزح جيمس كنغدوم بشئ من الضيق ,واجاب :
-سمعت ماقلته ياجويل ,كنت اعرف ,اعرف ان راشيل كانت تنتظر منك طفلا !
هز جويل رأسه ,وهو لايكاد يصدق ,بالرغم من كونه سمع الكلمات ,سمعها بوضوح تام .ولكنه لم يستطع ان يصدق ما سمع ,وتصلبت قبضته على سترة ابيه وقال في شئ من القسوة :
_ماذا تقول ؟كيف استطعت ان تعرف ان راشيل كانت حاملا؟
_انني...انني كنت اعرف...
حاول ابوه ان يجذب سترته من قبضة جويل واكمل :
_جاءتني راشيل ...وكانت يائسه ,وطلبت مني المساعده .
كانت عينا جويل ,وهو يسمع ذلك ,تلمعان كخيوط من الجليد ,وصار يردد :
_هي !طلبت مساعدتك !وما الذي استطعت ان تفعله من اجلها ؟
_اعطيتها المال لتتخلص من الجنين بالاجهاض.
_اجهاض !ولكن ...ولكن ...
وختم له ابوه الجمله بشيء من البرود :
_ولكنها لم تستخدم المال في اجراء عملية الاجهاض ,بل استخدمته في الهرب الى الشمال ,لتعيش منه وهي تنتظر ولادة الطفل .
سأله جويل :
_وكنت تعرف ذلك ؟
هز ابوه رأسه بقوة وقال :
_لا !قلت لك انني اعطيتها النقود لتتخلص من الجنين بالاجهاض ...ولم اكن اعرف انها لم تفعل ذلك .
كان جويل يشعر بصداع شديد اشد من اي وقت مضى ,منذ ان سمع ان راشيل كانت على علاقه بابيه ...راشيل تتوجه الى ابيه وتتجنب عن عمد ان تخبره هو بانها حامل !
استنشق نفسا طويلا ,ونظر الى ابيه من جديد :
_ولم يخطر لك بالطبع ان تخبرني ؟اليس كذلك ؟
_الحت علي راشيل في رجاء الا افعل .
_ومنذ متى كنت تحترم رغبات الاخرين؟
واخذ جيمس يتحسس كرسيه المصنوع من الجلد وبدأ يهوي بجسمه ببطء على الكرسي ,وصار ينظر بمراره الى ابنه ,ويقول بصوت اجش :
_اذا كان استعراض البطوله قد انتهى ,فأنني اقترح ان نتناول الموضوع الان بطريقه هادئه متعقله .
_وكيف اتصرف لكي اكون هادئا ومتعقلا كما تريدني ؟
_اريد ان لا تتدخل في هذا الموضوع !انه موضوع بيني وبين راشيل .
_لايمكن ان يكون كذلك بعد الان ...اريد ان اعرف باي حق اعطيت راشيل المال لتبدد طفلي ؟


عندئذ ضرب جيمس كغندوم على المكتب بعنف وقال :
_انك تتصرف بطريقه مثيره ياجويل ؟كانت راشيل في يأس شديد ,هل كنت تريد ان اطردها ؟
واقبل جويل على المكتب من جديد ,وهو يقول :
_كان بأمكانك ان ترسلها الي ,بل كان بامكانك ان تخبرني .
_هل تعتقد انها كانت تقبل الذهاب؟اعني...اليك ؟
وكانت ملامح جويل تعبر عن الازدراء وقال :
_اعتقد انك لم تكن تريدها ان تفعل ,يالها من فرصه اتيحت لك لترد بها سلوكي ازاءك عندما كنت في كل مناسبه اظهر العناد لتسلطك.
_هراء .
رد جويل بسخريه :
_هراء ؟لا اظن ذلك .
سأله جيمس بغضب :
_الا يخطر لك ان تفكر لماذا لم تحظر راشيل بنفسها اليك ؟
لا ...كانت تعلم انها ان حضرت الي فلن اعطيها النقود من اجل الاجهاض .
_اذن ماذا كنت ستفعل ؟
تردد جويل للحظه قصيره ,وقال :
_كنت سأتزوجها .
وحدق فيه جيمس بسخريه وقال :
_هل كنت تفعل ذلك ؟هل تتصور بأمانه ان راشيل كانت تقبل الزواج منك في تلك الظروف ؟يا الهي !انك متعجرف ,ياجويل .
_من شابه اباه فما ظلم ,يا ابي !
ورد جيمس ساخطا :
_اهدأ...ان راشيل لم تات اليك لانها عرفتك على حقيقتك ,شخصا متطلعا انانيا ,كنت اكبر منها بعشر سنوات ,ولم يمنعك ذلك من ان تشبع رغبتك على حساب تدمير حياتها .
واشاح جويل بوجهه بعيدا ,وصار يدمدم بعنف :
_لم يكن الامر كذلك ,كنت احبها .
ونفخ الاب في الهواء من انفه نفخه قويه تعبيرا عن الازدراء ,وهو يقول :
_الحب !انك لاتعرف معنى الكلمه !
واستدار جويل في غضب تجاهه ,يقول :
_انت اذن الذي يعرف معنى الحب؟بعد ان تزوجت باثنين !
واغتم وجه جيمس ,وقال :
_احببت امك ,ياجويل !كنت احبها كثيرا !وعندما ماتت ...كانت ام فرنسيس على النقيض من ذلك ,ولم يكن مقدرا لزواجنا ان يغدو قصة حب ,بل عاش كل منا حياته الخاصه .
واكمل له جويل الجمله :
_مستمتعا بها الى اقصى حد ...نعم...لم اكن صغيرا حتى لا ادرك ما كان يدور يا ابي !كل اولئك الضيوف الذين يترددون على البيت ,لم تكن قديسا !ومع ذلك فانت تجلس تثرثر كالاطفال عن الانانيه وعن الطموح ,الم تكن انت انانيا ؟..الم تكن طموحا ؟
_من اجلك ,ياجويل !فقط من اجلك انت !
هز جويل رأسه ,وهو يقول :
_من اجلي !
_انها الحقيقه ...فانت ابني الاكبر ,ياجويل !وابن المرأة التي كنت اقدسها .هل تلومني لانني اردت ان اصوغك في القالب الذي اراه ؟
وقاطعه جويل وهو يذرع ارض الغرفه بشئ من القلق :
_على شاكلتك!نعم !ان هذا الكلام لن يؤدي بنا الى شيء.لقد حولنا عن الموضوع بما فيه الكفايه ,اريد ان اعرف كيف عثرت على راشيل مرة ثانيه ؟وكيف وصل بك الامر الى ان تطلبها للزواج ؟بل اهم من هذا اريد ان اعرف لماذا تقدم هي على مثل هذا الامر ؟ان هذا كله يرتبط بموضوع الطفله ,موضوع سارة !مامشكلة سارة؟لماذا تتردد على المستشفى ؟ولماذا يسمونها المقعده ؟
سحق جيمس كغندوم بقايا السيكار ليطفئه وقال :
_الم تسأل راشيل هذه الاسئله ؟
_انني اسألك اياها ؟أو تفهم ؟
وهز ابوه كتفه استهجانا وقال :
_اذا كانت هي لم تستطع ان تشفي علتك للمعرفه ,فانني اخشى الايكون ذلك في طاقتي انا ايضا .
_ابي ,انني احذرك !
ونهض الاب على قدميه مرة ثانيه ,وقال :
_لا ! انا الذي احذرك ,ياجويل !ابتعد عن هذا الموضوع !لقد مضت عليه سنوات ,وانت تعامل هذا البيت بازدراء ,ولم تكلف نفسك عناء السؤال عني او عن صحتي ,كل ما اطلبه هو ان تبقى بعيدا عن الموضوع ,استمتع بوقتك مع الاخرين الذين تهتم بهم ,اعتقد انه يغيظك ان ترى راشيل تفضلني عليك ,ولكن سوف تعتاد على ذلك .
_ان امر راشيل لا يعنيك .
_على العكس ,انني مغرم بها ,انني احبها كثيرا ,ولقد احببتها دائما ,حتى عندما كنت تسمم عقلها ضدي .
دمدم جويل بمراره :
_ينبغي ان تعترف بانه كان لذلك مايبرره .
_ربما ...انني اعترف...لم اكن دائما ذلك الخير الكريم ,ولكن الزمن يتغير .
كان جويل يحس بالم شديد فوق جفنيه ,وقال:
_اتفق معك ان الزمن يتغير ,ولكنك انت لا تتغير !
ثم سأل:
_وماذا قلت لها عني ؟
هز جيمس كتفيه واجاب :
_قد لا تصدق جويل !بأننا نادرا ما كنا نتحدث عنك ,مرت راشيل باوقات عصيبه في السنوات الاخيره ,وانني اعتزم ان اذلل لها كل الامور .
جعل جويل يده تتخلل شعره ,وعلق :
_كان بوسعك ان تذلل لها الامور بدون ان تتزوجها .
وبدت ابتسامه ساخره على وجه ابيه وهو يقول :
_ماذا ؟واترك الميدان مفتوحا امامك ,ياجويل !اوه ,لا ,ان الاتفاق الذي عقدناه انا وراشيل لم يبق منه الا توقيع عقد الزواج .

عاد جويل الى شقته التي تطل على حديقة ريجنت بارك ,وكان الصداع يدق رأسه بعنف اذ ترك منزل ابيه قبل ان تنهار سيطرته على نفسه تماما .وبلغ الغضب منه مبلغا لم يعهده في نفسه من قبل .
وقاد سيارته الى مكان الانتظار في الممر السفلي ,واستقل المصعد الى الطابق العلوي ,وعندما دخل شقته اجفل عندما وجد مصباحا لايزال مضيئا في غرفة الجلوس ,وان امرأة شابه كانت ترقد على الاريكه الفرنسيه المصنوعه من المخمل .كان صوته وهو يغلق الباب قد ايقظها ,فرفعت رأسها بأبتسامه تعبر عن الترحيب ,وقالت وهي تمد ذراعيها الابيضين الممتلئتين :
_جويل !حبيبي! خفت الا تعود !
وهبط جويل درجتين منخفضتين تؤديان الى وسط الغرفه .وقال وهو يحل ازرار سترته :
_ماذا تفعلين هنا ,اريكا ؟
وارتفع حاجبا اريكا غراي الرقيقتان في شيء من التقوس ,وقالت توبخه بلطف :
_اهذا هو اللقاء الذي انتظه منك ,ياحبيبي ؟لابد ان العمل الذي سافرت من اجله الى يوركشير لم يكن مرضيا كما كنت تنتظر .
وجاوزها جويل متجها الى المنضده المتحركه للمشروبات التي كانت مستنده الى الحائط ,واخذ يعد لنفسه كأسا اجترعها قبل ان يقول :
_هل هيرون هو الذي فتح لك الباب ؟
واجابت بجفاف :
_نعم منذ اربع ساعات !ما الخبر ياجويل ؟الايسرك ان تراني ؟
ونهضت من فوق الاريكه ,ووقفت امامه ,وكان شعرها الكستنائي الداكن يتجعد بشكل انيق حول رأسها الصغير ,وكان كعبا حذائها يضيفان عدة بوصات الى قامتها الصغيره التي لاتزيد عن خمسة اقدام .وتذكر قامة راشيل ,كانت اكثر ارتفاعا ,ولكنه سرعان ما طرح الفكره بعيدا بشئ من الغضب والتنهيد ,وقال :
_اسف يا اريكا ,انا متعب تماما ,اعاني من صداع شديد ,ولا اريد سوى ان استحم وانام .
واقتربت منه ويداها مبسوطتان ,تقول:
_اوه !ياحبيبي !هل احضر لك شيئا ,قرص اسبرين مثلا او كوب ماء معدني فورا .
قالت ذلك وقد تشابكت اصابع يديها .
وهز جويل رأسه ,وهو يقول :
-لا !لا!اشكرك ! لاشيء
ولمس جبهته بيده ,وهو يضيف :
_اسف !سامحيني .
وصار لسان اريكا يسبر سفتها العليا ,فقد احست بشيء من القلق ,وكانت تعرف ان اية لفظه غير محسوبه يمكن ان تشعل نار كبيره ,وقالت وهي تتحسس عباءتها التي كانت قد القت بها على ظهر الاريكه عند وصولها :
_سأذهب ,وسأطلبك بالهاتف غدا ؟هل افعل ؟
نظرجويل اليها بقلق ,وبدأ يحس بالازدراء لنفسه لذلك التصرف الذي بدر منه ازاءها بدون قصد ,ولكنه لم يكن الان في حاله تسمح له بان يتصرف بطريقه لبقه ,ومع ذلك كان في ظروف اخرى ,يسعد بمؤانستها ,ولم تكن اريكا ترهقه بأية تكاليف ,اذ كانت تكفل نفسها ,وكانت على قدر كبير من الذكاء ,وكان يعرف انها تتطلع الى زواجه في النهايه ,ولم يكن يشعر بالضيق لذلك .اذ كانت مطالب عملها تتوازن مع مطالب عمله .ولم تكن تفكر في انجاب الاطفال ...ولكن شيئا ما حدث فجأة .وبدأ جويل يثور على نمط حياته القائم على الانانيه .وكان كل ما رآه في تلك الليله عينين قاتمتين عاصفتين تحملقان فيه في كراهيه باديه ...كان ذلك خبلا وجنونا ...ولكن هاتين العينين كانتا تلاحقانه .ومع ذلك هل من الخبل ان يريد الانسان من ابنته ان تحبه ؟
لم يستطع ان يشرح شيئا من ذلك لاريكا ,وتركها تفكر ما تشاء في سبب سلوكه غير الودي نحوها تلك الامسيه ,ووضعت العباءه على كتفيها وسارت الى الباب ,وسار جويل خلفها ليوصلها :
_نعم ,اطلبيني غدا ,طاب مساؤك يا اريكا !
_طبت مساء . 
***************************


4-بيت جديد .. ملابس جديده .



أخيرا نامت سارة , ومشت راشيل على رؤوس أصابعها خارج الغرفة , وأغلقت الباب , وكان الأمر قد احتاج إلى بعض الوقت لأن ما حدث ذلك اليوم كان جديدا عليها , وارتفعت حرارتها بشكل ينذر بالخطر , لكنها أخيرا بدأت تستغرق في نوم هادئ.. وسارت راشيل إلى غرفه الجلوس حيث كان جيمس في انتظارها .
كانت الشقة الجديدة في عمارة تقع في احد الشوارع الصغيرة المتفرعة من طريق آبي . كانت أرحب بكثير مما توقعت ففضلا عن غرفة الجلوس الرحبة كان هناك مطبخ واسع وغرفتان للنوم وحمام .والأثاث على درجة من الأناقة وبدأت تدرك أن جيمس تحمل بالفعل الكثير من اجلها ,وامتزج تعبيرها بالعرفان له بالجميل بشيء من الاحترام والوقار .
وكان المنزل على مقربة من مستشفى سانت ماثيوز مما يسمح لها بان تزور سارة عندما تدخل المستشفى وقتما شاءت .
كان جيمس كنغدوم يجلس على الأريكة المستطيلة عندما رجعت إلى غرفة الجلوس , ونهض عندما رآها تدخل وأجلسها إلى جواره وهو يقول :
" تعالي ,واجلسي , اسمحي لي ان احضر لك مشروبا ."
وأجابت وهي تجلس على حافة المقعد المريح :
"لا بأس !"
واحضر لها شرابا ثم قال :
" التعب باد عليك ! اعتقد انك تفضلين النوم مبكرا ."
وأومأت برأسها :
" كان يوما متعبا إلى حد ما ."
وأدركت انه ينتظر منها شيئا أخر , فأضافت :
" لقد كنت كريما عندما انتظرتنا على المحطة , ودعوتنا لتناول الطعام . سارة كانت فرحة ."
وعلق وهو يستلقي في مقعده , وينظر اليها عن كثب :
"لم افعل إلا الواجب , بالمناسبة في المطبخ مؤونه كافية. واعتقد أن سكرتيرتي قامت بذلك كما ينبغي ."
وشكرته راشيل وكان جيمس قد قرر أن يجعل منها امرأة تليق بان تقدم إلى الآخرين باعتبارها زوجته , وعلق بطريقة عارضة :
" اعددت الترتيبات لتزوري الصالون الرمادي خلال هذا الأسبوع , يا راشيل ."
ورفعت راشيل بصرها ,وقالت :
" الصالون الرمادي ؟ ماذا يكون ذلك ؟"
" الصالون الرمادي يا عزيزتي , محل متخصص في الملابس الجاهزة , تملكه إحدى صديقات جويل , نعم ! اسمها اريكا غراي .. وستقوم بنفسها على خدمتك , إذا عرفت من أنت !"
" ماذا تعني ؟"
"لا ! اعني انك خطيبتي" .
كان صوته هادئا رزينا , واكمل :
" ماذا ظننت ؟ اخشي أن أقول إنني قصدت اغاظتك , كما أغظتني .. لقد كتمت عني انك رأيت جويل بعد أن التقينا أخر مرة ."
وأحست راشيل إنها أشبه بذبابة وقعت في نسيج عنكبوت ماكر وأحست بأنه كان من واجبها أن تخبره بزيارة جويل , ولكن ذكرى تلك الزيارة كانت لا تزال فجة لا تصمد الاختبار , وتجرأت على أن تسأل :
" وكيف عرفت بها ؟"
" اخبرني جويل بنفسه ."
" جويل ؟"
" نعم ! هل كنت تظنين انه لن يخبرني ؟"
تصورت أن جويل ربما يفضل أن يتجنب المواجهة المكشوفة مع أبيه وقالت في صوت خفيض :
" جاء منذ أكثر من أسبوع , ولكن الكولونيل لم يره . كان يريد أن يرى سارة ."
" وأخبرته من أبوها ؟ أليس كذلك ؟"
" نعم ."
" لماذا ؟هل الشبه الكبير بينهما جعلك تفعلين ذلك ؟"
" أنا ! لا ! ."
" كان من السهل أن تكذب لكنها لا توافق وأضافت :
" لم يكن قد رأى سارة بعد عندما أخبرته ."
وتقوس حاجباه الكثيفان وقال :
" إذن , لماذا فعلت ذلك ؟"
هزت رأسها وقالت :
" تشاجرنا مشاجرة عنيفة , كنت أريد أن يحس بصدمة الحقيقة ونجحت ."
" ولم تكوني تنوين أن تخبريني بذلك ؟ على الأقل لأحذ حذري كما يقولون" .
" لم يكن هناك متسع من الوقت بعد ."
" لا ! اعتقد انه لم يكن هناك .... و سارة ... بالطبع لا تعرف شيئا عن علاقتها بابني ؟"
" لا !"
"حسنا ... فقط أحب أن أوضح انه لاينبغي أن يخفي احدنا سرا عن الآخر يا راشيل ! ولا تنسي انه بدون مساعدتي لن يكون أمامك من ملاذا إلا اللجوء إلى جويل ؟ هل تريدين ذلك ؟"
واجابته وفمها يرتعش:
" بالطبع لا ! انك تعلم إنني لا يمكن أن افعل ذلك !"
وأومأ جيمس بيده ليفض الآمر وهو يقول :
" وإذن فلن نقول كلاما أخر في هذا , اعتقد أن موعدك مع لوريمر هو صباح الغد , أليس كذلك ؟"
" نعم ! نعم ! في الـعاشرة ."
" هل تحسين بشيء من الاضطراب ؟"
" هل تحس آنت بذلك ؟"
" اشعر بشيء من القلق ! ربما ... ولكن لوريمر هو دون شك أكفأ رجل في ميدان تخصصه , وليس ثمة ما يدعو إلى القلق ... ."
وبدأت راشيل تتحدث بشيء من عدم الثقة فقالت :
" ولنفرض ان العملية فشلت ."
"عندئذ سوف تستأنف سارة علاجها الحالي , وينبغي أن تكوني أكثر تفاؤلا !"
وارتشفت ما بقى من كأسها , وقالت :
" سأبذل جهدي ."
ووضع الكأس الفارغة على رف الموقد , وقال :
" سأخرج .. بإمكانك أن تنامي .. وسوف أمر بك مساء قبل أن أسافر إلى فرنكفورت وسيكون هذا أخر مؤتمر احضره بأذن الله ."
كانت الساعه تشير الى التاسعة ونصف وكان الإنهاك يخيم على كاهلها وأدارت زر التلفزيون بشيء من التعمد وحاولت أن تتبع المسرحية المعروضة , لكنها كانت تشرد باستمرار . وعندما انتهت المسرحية وجاء شريط الإخبار فلم تكن تدري ما يعرض على الشاشة أمامها.
********
كانت راشيل ترتعد , وهي تتذكر موجة الرعب التي لفتها عندما فتحت الباب لجيمس كنغدوم ... وتعرف عليها في الحال , ورغم أنها لم تكن قد أخبرته بعد بموضوع ساره فأن الكولونيل ذاته قد تحمس وناقش قصة مديرة منزله الجميلة التي فقدت زوجها قبل أن يولد رضيعها .
ولم يضع جيمس وقتا في تقدير الموقف , بل وجد الفرصة ليتحدث مع راشيل , وليسألها عن السر وراء اختفائها , ورغم أن راشيل لم تكن ترغب في أن تتحدث إليه فإنها لم تستطع أن ترفض ذلك لأنه كان ضيف مخدومها,
وقررت أن تخبره بالحقيقة , وكان جيمس متعاطفا معها وخاصة عندما علم بمرض ساره . قال لها انه يريد زوجة وانه ينوي أن يعتزل ويخشى أن يعيش وحيدا دون صحبة امرأة , واقترح على راشيل أن تنظر في قبول الاقتراح إذا كانت تريد أن تؤمن حياتها وان تجد السبيل لشفاء سارة ...
كانت فكرة الزواج من جيمس تبدو أول الأمر كاللعنة , ولكن المزايا التي سوف تجنيها بالنسبة إلى سارة هدأت من مخاوفها .
كانت مدينة لسارة بكل ما تفعل , وكانت تفعل كل ما في طاقتها لا من اجل أن تعود سارة إلى حاله صحية طيبة فقط , ولكن لتطمئن إلى أن سارة لن تواجه الصراع نفسه من اجل الحياة كما فعلت هي من قبل , وكان جيمس هو جد الطفلة ويكن لها مشاعر فطرية
وقال إنهم سيقضون معظم السنة في بلاد اليونان , ولو سار كل شيء كما ينبغي فأن سارة ستعود في النهاية إلى انكلترا لتنتظم في الدراسة في إحدى المدارس هناك ....
وفكرت إنها سوف تنعم بكل ميزة يمكن أن يجلبها المال وهي ميزات بإمكان راشيل أن تفكر فيها بعدما قضت ابنتها سنوات حياتها الأولى في دار للأيتام , ولن تكون بحاجه إلى أن تعمل إلا إذا رغبت هي حقا في ذلك , فكيف ترفض ذلك العرض ؟
*******
ونهضت راشيل من جلستها فأطفأت التليفزيون, ودخلت غرفة نومها . كان هناك باب يوصل غرفتها بغرفة سارة تركته نصف مفتوح واتجهت إلى فتحة الباب وأخذت تنصت باهتمام , كانت سارة تتنفس بهدوء مما يعني أنها بدأت تشفي من معاناة ذلك اليوم .
وعلى غير ما تنتظر , نامت سارة نوما هادئا , واستيقظت على صوت غير عادي جاء من همهمة المرور على الطريق العام على بعد ياردات قليلة من المبنى حيث يقيم . وكانت شمس آذار/مارس تنفذ من خلال الستائر , وحدثت راشيل نفسها بالتفاؤل واعتبرت ذلك بشير خير.
واستطاعت أن تسمع أصواتا على ما يبدو تحاول أن تستطلع غرفة نومها بدون أن توقظ أمها , وقالت وهي تنظر بعينين طار فتين :
" آنت كسولة , فلقد استيقظت قبلك بساعات .."
ونظرت راشيل بطريقة آلية الى ساعتها , ثم استرخت عندما رأت أن الساعة لا تزال الثامنة ونصف وقالت :
" هل نمت جيدا ياعزيزتي ؟"
" انه فراش وثير يا أمي , هل سيكون لي فراش مثل هذا عندما تذهب لنعيش مع ذلك الرجل ؟"
ورغم أن جيمس طلب إليها أن تناديه بكلمة عمي أصرت على أن تسميه ذلك الرجل مما سبب لراشيل بعض الضيق وإجابتها راشيل في اختصار :
" اعتقد انك ستجدين في الحياة في الخارج شيئا جديدا .. والآن اذهبي واغتسلي بينما أقوم أنا بإعداد ملابسك للذهاب إلى المستشفى ."
وبدأت سارة تنهض من الفراش ببطء وسألت بقلق :
" لن اضطر إلى البقاء في المستشفى اليوم , أليس كذلك ؟"
وهزت راشيل رأسها وقالت :
" لا , انك اليوم ذاهبة فقط ليراك الدكتور لوريمر , تذكرين الدكتور لوريمر , أليس كذلك ؟ قابلته أخر مرة كنا في لندن ؟"
" عندما كنا نقيم في الفندق الكبير ؟"
وابتسمت راشيل ابتسامه خافته , وقالت :
" تماما , والآن هيا , اغتسلي !"
ودق جرس الهاتف , وأحست راشيل بأعصابها تتوتر , وهي ترفع السماعة , كان المتحدث هو سكرتيرة جيمس وطمأنتها راشيل أن كل شيء على ما يرام , وشكرتها لما تحملته من اجلهما وأجابت السكرتيرة في أدب :
"حسنا يا سيدة غليمور , انه واجبي ."
وأحست راشيل أن السكرتيرة لم تكن راضيه أبدا على الوضع , وخرجا إلى المستشفى بعد الإفطار .
كان الدكتور لوريمر , الجراح المكلف بحاله سارة رجلا في اوائل الاربعينات من عمره يتمتع بمظهر يبعث الثقة في مرضاه , وكان يهتم بطريقة خاصة بالأطفال وأدركت سارة ذلك من زيارتها الأولى .
ورغم أنها لم تقابله إلا مره واحده من قبل سمحت له أن يفحصها دون أن تبدي أي اعتراض ولم يستغرق الفحص وقتا طويلا وقدمت راشيل للطبيب فيما بعد سائر الوثائق اللازمة
بينما كانت سارة تلعب مع هيلفا دميتها , واتخذت الترتيبات اللازمة لتدخل سارة المستشفى , وأحست راشيل بارتياح كبير عندما انتهت المهمة .
وحضر جيمس إلى الشقة مرة ثانية تلك الأمسية وأخذت سارة تتحدث عن زيارتها إلى المستشفى وعن الدكتور لوريمر بلطفه ورقته , وأحست راشيل بارتياح لوجود الطفلة مما ساعد على تحاشي وجودهما على ولو لفترة ومع ذلك كان على سارة أن تذهب في النهاية إلى مخدعها , وعندما رجعت راشيل لتجالس ضيفها
في غرفة الجلوس كان يبدو عليها الارتياح التام وساعدها على الجلوس في كرسي مريح , وقدم إليها كأسا من الشراب , وقال :
" ألا ترين أن سارة تشعر بالاستقرار تماما , لن يكون الأمر صعبا كما نتصور !"
وخطر لراشيل الأمر ليس كذلك تماما بالنسبة إلى سارة ولكنها مع ذلك قالت :
" الأطفال يتكيفون سريعا , وهذه إحدى ميزات صغر السن ."
وطقطق جيمس لسانه كعلامة على عدم الموافقة وقال :
" انك تتحدثين كأنك في أواسط العمر , إنني أعجب بشبابك ! ومن يدري فربما لا تزال أمامنا الفرصة ليكون لنا لأطفال نحبهم سويا ."
وتصلبت راشيل بعض الشيء ولم تكن تستطيع أن تتحمل الموقف , وقالت بارتباك :
" اوه , لا ادري" .
ولم يكن جيمس ينصت إليها وواصل الكلام
"سأتغيب حوالي عشرة أيام , ولعل ذلك يكون وقتا كافيا تعتاد فيه سارة على ظروفها الجديدة , ليس هنا فقط , وإنما في المستشفى كذلك , وعندما أعود يمكن أن نتحدث عن ذلك اطمئني فجميع الترتيبات اللازمة قيد التحضير ."
وأومأت راشيل برأسها وقالت :
" اعرف , فقد اخبرني الدكتور لوريمر ."
" حسنا ! وسوف يحرص على أن يزودك بالإخبار أولا بأول , هل أنت مطمئنة إليه ؟"
" نعم , وعندما تنتهي العملية ؟"
" ستكون بلاد اليونان مكانا امثل للنقاهة , واسترداد الصحة ."
" ولكن ... المصرف ؟"
" فرنسيس ليس سيئا , يا عزيزتي , ويستطيع أن يتصرف ."
"ولكن كم يطول ذلك ؟ آنت تعرف يا جيمس انك اخبرنني ."
"أخبرتك إنني كنت أتمنى أن يحل جويل محلي ولكنه رفض وسوف يكون على فرنسيس أن يتحمل المسؤولية ألان , وإذا سار كل شيء على ما يرام فربما تؤاتيني الفرصة ليكون لي طفل على صورتي ".
كان متحجر القلب فيما يخص العمل , وكانت راشيل تعرف عنه ذلك من جويل منذ سنوات مضت , ومع ذلك كان من الصعب تماما عليها أن تتصور نفسها أما لطفل منه .
وافرغ جيمس كأسه , وصار ينظر إليها بإمعان , وقال :
" بالمناسبة , اتخذت الترتيبات كي تحضر السيدة تالبوت إلى هنا وتقيم معك خلال الفترة التي تقضيها سارة في المستشفى ."
وقطبت راشيل , وقالت :
" السيدة تالوب آه , مديرة المنزل التي تعمل في بيتك ... " وهزت رأسها واضافت " ليس ذلك ضروريا ."
" لا اتفق معك, فانا لا أحب أن تقيمي هنا وحدك عندما لا أكون متواجدا لأعني بك ."
" ولكن سارة ستقضي ليلة واحده ."
"وبرغم ذلك أفضل أن اطمئن انك لست وحيده ."
كان متصلبا لا يقبل المناقشة , ولم تجد راشيل ما ترد به , ولكنها لم تستطع أن تمنع خاطرا خطر لها حول ما إذا كان لجويل أية علاقة بهذا الاهتمام الواضح الذي يبديه برعاية شؤونها .
وفي الصباح التالي , قبل أن يطير جيمس إلى فرانكفورت اتصل براشيل هاتفيا من المطار وقال :
" نسيت أن أخبرك , يا عزيزتي , إن الآنسة كلاي ستزورك هذا الصباح لتصحبك إلى محل الأزياء الذي أخبرتك عنه ."
وكانت الآنسة كلاي تعمل سكرتيرة له , واعترضت راشيل :
" ولكنني لا أريد أي ملابس أخرى ."
"اتركي لي تقدير ذلك , وأرجو أن تسمحي لي بان أجعلك ترتدين ما يليق بمكانة أسرة كنغدوم ."
" ولكنني لست عضوا في أسرة كنغدوم , يا جيمس ."
" سوف تصبحين كذلك عما قريب , يا راشيل . أرجو أن تستجيبي لطلبي , وإنني أتطلع إلى أن أرى التغيير عند عودتي ."
لم تعط راشيل وعدا قاطعا عندما وضعت السماعة , وكالعادة لم يكن هناك جدوى من محاولة التوضيح بأنها تفضل أن تبقى مستقلة حتى يتم الزواج , ولكن إذا صممت الآنسة كلاي أن تأخذها إلى الصالون الرمادي , فان ما بقي معها من النقود على ضآلته سوف ينفذ إذا ما حاولت أن تشتري ملابس جديدة .
كانت ليديا كلاي امرأة في نهاية العقد الرابع من عمرها , وعملت في مؤسسة كنغدوم منذ كانت لا تزال آنسة صغيرة ولأنها كانت سكرتيرة المدير , انعكس ذلك على سلوكها الذي كان يتسم بالتحديد والتصميم .
وصلت ليديا في سيارة أجرة لتصحبهما إلى السوق , وكانت السيارة في الانتظار عندما غادرن المبنى , وكان الصالون الرمادي يقع في زقاق يتفرع من شارع ريجنت ,
ولم يكن في مظهره من الخارج مايجذب الزائر إليه , ولكن ما أن يجتاز الزائر الباب الزجاجي حتى يحس في الحال بشيء من التوقع الغامض الذي يثير الاهتمام , وكانت هناك ستائر من الشيفون الوردي والقرنفلي تحجب كل شيء
ولم تكن الملابس او الفساتين معلقة كما تعودت راشيل من قبل في المحلات اخرى .اما سارة فقد كانت تنظر حولها باهتمام وهي ترتدي سروالها الجينز وسترتها المصنوعة من الفراء ذات قلنسوة ,بينما تتدلى هليغا من يديها كالعادة , وقالت في صراحة الاطفال :
" المحل فارغ من السلع , يا ماما , هل حدثت تصفية ؟"
وانتفضت شفتا الآنسة كلاي عندما سمعت ذلك وكانت إحدى البائعات تجتاز المكان , فاخفت الآنسة كلاي شعورها بدرجة كافية وقالت :
" صباح الخير ."
"اوه صباح الخير , آنسة كلاي ."
وواصلت السكرتيرة كلامها مع البائعة بشيء من اللطف :
" الآنسة غراي هل هي موجودة .؟"
" موجودة بالفعل . سنسير في هذا الاتجاه ."
كانت راشيل تتوقع الآنسة غراي على شيء من الجمال المهيب . ولكن اريكا غراي كانت ضئيلة الجسم , وعندما ظهرت بأناقتها في بذلة رمادية محكمة على جسمها وشعرها جعلت راشيل تشعر في أعماقها أنها طويلة القامة تعزوها البراعة,
فضلا عن أن النظرة السريعة التي ألقتها على ملابس راشيل كانت مهينة لها , وحيتها بشيء من البرود وهي تقول :
" أنت إذن السيدة غيلمور ؟ اخبرني السيد كنغدوم بقدومك , أهلا بك . اسمي اريكا غراي ."
ونظرت الآنسة غراي نظرة خاطفة إلى الآنسة كلاي ثم وقع بصرها على راشيل وقالت :
" هذه ابنتك يا سيده غليمور ؟"
وأومأت راشيل برأسها وأجابت :
" نعم هذه سارة ."
وتقوست شفتا اريكا الرقيقتان إلى أسفل , وقالت :
" أهلا يا سارة !"
ولكن سارة لم ترد التحية , وأخذت تحدق النظر في شيء من العناد , ولاحت اثأر بسيطة على جبين اريكا الأملس وكان من الواضح أنها أخذت بالشبه الواضح بين الطفلة وأسرة كنغدوم , ولحسن الحظ تذكرت راشيل أن جيمس كان من الأسرة ذاتها ."
وقالت اريكا وفي نبرات صوتها ما يدل على أنها تقصد توجيه أهانه مقنعه الى راشيل:
" ولكنها لا تشبهك كثيرا , أليس كذلك يا سيدة غليمور ؟"
واستجمعت راشيل كل ما بقي لديها من أثار الثقة بالنفس وقالت :
" لا يا آنسة غراي , إنها لا تشبهني , والواقع إنها تشبه جدها إلى حد كبير ."
قالت ذلك دون أن تبالي بالطريقة التي تفسر بها الآنسة غراي ذلك
وجلست كلاي لا تتكلم إلا قليلا , وقد تجاهلت سارة تماما . ودام صبر سارة بعض الوقت فجلست في كرسيها وقد افتنها التغير الذس كان يحدث في مظهر أمها , ولكنها بعد أن امتدت الدقائق إلى الساعة وامتدت الساعة إلى الساعتين بدأ يعتريها القلق , وصارت تسأل :
" كم من الوقت يطول بقاؤنا هناك ؟"
ولم يكن بوسع راشيل أن تجيب على سؤال ابنتها , ذلك بسبب انشغالها كلية مع غراي , وفضلا عن ذلك مضى عليها وقت طويل لم تكلف نفسها فيه مشقة العناية بمظهرها أكثر من أن تبدو نظيفة مهذبة , ولاح لها رغم مشيئتها أنها بدأت تستمتع بهذه الخبرة الجديدة
وعندما خرجت من إحدى المقصورات كانت ترتدي ثوبا من القطيفة في لون الياقوت الأزرق له صدر منخفض ضيق وأكمام طويلة حبكت على زنديها قبل أن تتدلى باتساع عند الكوع
في زي يشبه ما كان سائدا في العصور الوسطى , عند ذلك سمعت صوت رجل في القاعة الخارجية , وقبل أن تجد الوقت لتصلح من شأنها خطا الرجل بخطوات واسعة من خلال الستائر,
ووقف في مواجهتهن وكان الرجل هو جويل , تركت اريكا كل ما في يديها في الحال , وذهبت للترحيب به :
" يا حبيبي , ماذا تفعل هنا ؟"
ونظر جويل من فوق رأس اريكا إلى راشيل واندفع الدم إلى وجنتيها من تلك النظرة وقال في شيء من السخرية :
" أوه , لقد ظننت انه من المناسب أن القي نظرة على تلك التي ستغدو زوجة أبي .
"
*****************************

5_آيس كريم  


كانت اريكا الشخص الوحيد الذي لم يبد دهشه لحديث جويل ,ولكنها كانت عندئذ منهمكه في اختيار الازياء المناسبه لراشيل وفقا للتعليمات التي تلقتها من جيمس كنغدوم ,وكان الامر بالنسبه اليها عملا يتطلب الانجاز ,اما الانسه كلاي فقد كانت تنظر بشيء من عدم الموافقه ,واما سارة فكانت عابسه مقطبه ,وبالنسبه لراشيل ...حسنا ,خطر لها وهي تحاول ان تستعيد رباطه جأشها ان جويل اراد ان يثيرها ,ونجح في ذلك .


ونظرت حولها تبحث عن السروال والستره الصوفيه اللذين حضرت بهما وقالت :

_افعلي ما تعتقدين انه الافضل .ولكن لو سمحت ,فانا تعبت اليوم . وتبع ذلك صمت عميق استجمعت اريكا نفسها خلاله ,وقالت : _سوف اطمئن على ان جميع الملابس المناسبه تم توليفها ,هل ارسلها الى منزل السيد كنغدوم ؟ وهزت راشيل رأسها وقالت : _لا ! لي شقتي ,سأعطيك عنوانها .والافضل ان ترسليها لي على هذا العنوان .


وردت اريكا بأدب وهدوء للمرة الثانيه : _حسنا ياسيدة غليمور. وسألت راشيل بشيء من الاحباط : _هل تعرفين اين اجد سروالي وسترتي الصوفيه ؟ ونظرت اريكا حولها ,ثم هزت كتفيها ,وقالت : _انني اقترح ان تلبسي شيئا اكثر اناقه يناسب المدينه ! عندئذ حدقت راشيل ببرود ,ثم استدارت بعيدا وقالت : _اشكرك ,ولكنني افضل ان ارتدي ملابسي لاطول فترة ممكنه .


والتفت جويل من اريكا الى ساره ,وقال وهو ينحني تجاهها ليقترب منها :
_وما رأيك في ملابس ماما الجديده ؟
وجعدت ساره انفها ,وزمت شفتيها وحدقت في وجهه ,وابتسم ابتسامه عريضه انعكس اثرها بطريقه تثير الدهشه فيمن حوله فقد بدا اقل عمرا بكثير مما هو ,وعلق بشئ من الحده:
_هذا وجه جميل لطيف ...والان اريده ان يعبر عن الغضب والقبح .
وزمت سارة شفتيها بطريقه اكثر تشددا ,ولكن شيئا ما في ابتسامته جعلهما تتذبذبان ,وقالت :
_ابتعد عني ..انا لا احبك ..
قالت ذلك عندما لم تستطع ان تحتفظ بالتكشيره لوقت اطول ,ولم تملك الانسه كلاي الا ان تطقطق لسانها في شئ من الاستنكار .
ولاول مره نطقت راشيل ,وقالت :
_ساره ّ!
ورفع جويل بصره اليها بشئ من الاستخفاف ,وقال ساخرا :
_حسنا !حسنا !انت ذاهبه الى حفل راقص ,ياسندريلا !
وامتقع وجهها ,واستدار جويل ثانية الى الطفله ,وامسك براحة هيلغا الطليقه ,وقال :
_الا تشعرين بالملل ,وانت تجلسين هنا تتفرجين على معرض الازياء ,اعرف مكانا يباع فيه الايس كريم ,الا تفضلين ان تاتي معي لناكل حتى تنتهي ماما مهمتها ؟
وجذبت ساره هيلغا من يده وهي تقول :
_لا !
والح عليها :
_هل انت متاكده ؟انهم يبيعون الستيك المصنوع من عصير الفواكه المجمد كذلك !
وردت ساره :
_انا لا احب الستيك .
ولكن صوتها لم يكن يبدو مقنعا على الاطلاق ,وعندئذ انفجرت راشيل قائله :
_كف عن محاولة رشوتها ,ياجويل ...اجلسي ياساره ...لن نتاخر كثيرا .وبعدئذ سوف اشتري انا لك الايس كريم .ساره لاتريد ان تذهب معك ,ياجويل .
ووجه انتباهه الى ساره ,واخذ يسألها :
_حقا ياساره ! انت لا تريدين ان تذهبي معي ؟الا تحبين ان تخرجي معي للنزهه في سيارتي ؟انني احب ان ارسم لك صوره .
_صورة لي؟
واخرج من جيبه ورقه مطويه من اوراق الرسم ,واشار الى سارة ان تقترب منه ,وفتح الورقه ,وترددت ساره لحظه .
ونظرت الى امها تطلب الموافقه ,ولكن راشيل لم تستطع ان تستجيب .كانت سارة مرسومه بدقه وعنايه ,ولم تكن راشيل تعرف اللعبه التي اراد ان يلعبها او مايريد ان يصل اليه .ولكنها كانت تحتقره لاستغلاله سارة بتلك الطريقه .
اما سارة فلم تكن تدري شيئا عما يدور في الخفاء ,وكانت الكراهيه التي احست بها اول الامر ,بدأت في الذبول تحت وطأة ميلها الفطري للاستطلاع واقدمت لتلقي نظره على الورقه التي كان يمسك بها ,وصاحت بدهشه :
_انها انا ...اليس كذلك ؟
واومأ جويل بشيء من التسامح :
_هل تعجبك ؟
وجذبت ساره الورقه من يده ,وركضت الى امها تعرض الصوره النصفيه المرسومه بالفحم والتي تبرز رأسها وكتفيها بشئ من الزهو وكان من الواضح ان جويل رسمها من الذاكره ,كان الرسم ممتاز ككل اعماله .وتوترت عضلات معدة راشيل واحتاجت الى مجهود كبير لتبدي الموافقه ,وقالت :
_انها ...انها جميله جدا ,ياحبيبتي !
واخذت سارة الصورة مرة ثانيه وصارت تقبلها وهي معجبه بها ,وقالت :
_شعري يبدو جميلا ,اليس كذلك ؟لكن كنت افضل ان اكون مبتسمه !
وعلق جويل في مرارة:
_ولكنك لم تكوني باسمه في وجهي عندما رأيتك اول مرة .
ونظرت اليه في ثبات وهي تتفحصه ,وسألته :
_لو تركتك ترسمني مرة اخرى ,هل ستجعلني ابتسم ؟
وتدخلت راشيل ,وقالت :
_سارة ! السيد كنغدوم لديه اعمال كثيرة ,واعتقد ان لديه اعمالا اهم من مجرد رسم الفتيات الصغيرات .
وعلقت اريكا وهي تشد بقسوة سحابة رداء من المخمل :
_لم اكن ادري ان جويل يعرف ابنتك الى هذه الدرجه .
وخطت راشيل خارج الرداء ,وهزت رأسها ,وقالت في شئ من التسرع :
_هو لا يعرفها بهذه الدرجه .قابلها مرة واحدة من قبل .
وردت اريكا وفي صوتها نغمة الشك :
_ومع ذلك يرسمها من الذاكرة ,لم اكن اظن انها تبقى في ذاكرته الى هذا الحد ...بالطبع هي سوف تصبح اخته من ابيه عندما تتزوجين جيمس كنغدوم ,اليس كذلك ؟
تنشقت راشيل نفسا عميقا ,وقالت :
_اعتقد انني شاهدت قدرا لا باس به من الثياب اليوم ,هل يمكن ان ترسلي لي البذله الخضراء باللون اللوزي ,والفستان الارجواني والسترة .
_ان الاوامر التي تلقيتها تقضي تزويدك بكسوه كامله ,واعتقد انك لا تريديني ان اؤذي مشاعر السيد كنغدوم .
ونظرت راشيل الى اريكا ثم الى وجه الانسه كلاي المتخشب ,ثم عاودت النظر الى اريكا ,لم تكن ثمه فائده ترجى من تصعيد الموقف معهما ,بينما جويل هو المسؤول عن كل شيء حدث ,ثم انه اذا كانت علاقته باريكا بلغت بالفعل المبلغ الذي كانت اريكا توحي به ,فمن حقها تماما ان تعبر عن استيائها .
وخرجت مع الانسه كلاي بعدما ودعتا اريكا ,ولم تستطع راشيل ان تمنع خاطرا قاسيا خطر لها بأن جيمس قصد عن عمد ان يبعث بها الى ذلك المكان لتعرف ان عاجلا او اجلا بالعلاقه بين اريكا وجويل .
كان يظن انها مازالت تحتفظ ببعض المشاعر تجاه جويل ,انها تحتفظ حقا ببعض المشاعر .ولكن ليست تلك التي تستحق ان يأرق بسببها .
واستقلت الانسه كلاي سيارة اجرة ,واخذت راشيل تتسكع في شارع ريجنت تتفرج على الواجهات ,وذكرها ذلك بأيام التلمذه ,تلك الايام التي لم تكن قد عرفت فيها جويل بعد .
لم تتمتع راشيل بطفولة سعيده ,اذ غدت يتيمه قبل ان تصل السن الذي تستطيع فيه ان تتذكر ابويها ,وتربت في احد بيوت الاطفال حيث يكون اشباع الحاجه الى المحبه والحنان تاليا لمرحلة الاهتمام بالواجبات العاديه للمعيشه .
كان لها اصدقاءها ,وكانت هناك فترات استمتعت فيها بالسعاده ,ولكنها لم تبدأ تحس بما تشعر به الفتيات في سنها عادة قبل ان تصل الى السن الذي استطاعت فيه ان تعتمد على نفسها ,ولما اعطيت لها منحه دراسيه ,استطاعت ان تجد غرفه في احد الاقسام الداخليه ,وانتظمت في كلية ماكسويل للتصميمات الفنيه والحرف وعرفت باستمرار بتذوقها للالوان .وامضت حوالي تسعة شهور في الكليه عندما جاء جويل كنغدوم لالقاء محاضرات على طلابها .
وجذبت راشيل اهتمامه من اللحظة الاولى ,في البدايه رفضت ان تكون لها به اية صله خارج الكليه ,وصممت على ذلك رغم ان الطالبات الاخريات كن يعتبرن ذلك جنونا منها ,ولكن ذات مساء وقف خارج الكليه ينتظرها وكان المطر ينهمر بشده ,ولم تجد بدا من ان توافق على ان يوصلها بسيارته الى بيتها ,ومنذ ذلك الحين صار ينتظرها كل مساء ,وسمحت له احيانا ان يصطحبها لتناول العشاء وادركت الان انها كانت على خطأ عندما ظنت ان بأمكانها ان تلهو مع رجل مثل جويل بدون ان تحترق اصابعها ,ولكن كل شئ يبدو غاية في البساطه انذاك .
كان جويل يبدو جذابا للغايه ووقعت في حبه قبل ان يمضي وقت طويل دون ان تدري ذلك ,وقال لها جويل ايضا انه يحبها ,ورغم انها كانت تعرف عندئذ انه ليس له نية الزواج ظنت انه عندما يقع ذلك الحادث السعيد فسوف تغدو زوجته .
وبدأت تدرك انها ساذجه وغبيه الى حد بعيد ,لم يكن الزواج احد مشروعات جويل في يوم من الايام ,وكان ينبغي ان تاخذ حذرها عندما عرفت اراءه حول الاطفال ,تكلم كثيرا في تلك الايام عن اناس يعرفهم ,ويرى ان الاطفال جلبوا المذله لحياتهم ,وكان يأسف للازواج الذين يضحون بشبابهم من اجل تربية ابنائهم الذين لا يلبثون ان يكبروا ويهجروا الاباء ليعيشوا حياة خاصه بهم .وكانت راشيل تتظاهر بالموافقه بينما هي في قرارة نفسها تعلل تلك القسوة منه بحرمانه من حنو الامومه في طفولته ,فقد ماتت امه وعمره بضعة اشهر ,وكانت تعتقد انه اذا ما تم الزواج بينهما فسوف يسعى لانجاب الاطفال مثلها تماما .
وصارت تمضي وقتا طويلا في منزله ,وتعرفت على خادمه هيرون ,وبدأت تعتاد المكان.
كان جويل يعاني من حالة صداع نصفي مستمر يعاوده في رأسه ,ولم تكن النوبات تحدث على فترات متقاربه .وفي احدى الامسيات التي كان هيرون قد استأذن فيها بالانصراف ,حضرت راشيل الى المسكن .ووجدت جويل شاحبا يتصبب عرقا ,ومع ذلك كان مستغرقا في اكمال لوحة لاحد المعرض التي ستقام خلال يومين .
واقنعته راشيل بان اصراره على العمل ,وهو في تلك الحال ,يعتبر خبلا ,وانه لايمكن ان ياتي انتاجه بالدرجه المطلوبه وعليه ان يذهب الى الفراش ليسترخي ويستريح .
واقتنع في النهايه بان يفعل ذلك شريطة ان تبقى معه ,وتبقى في مسكنه ولا تعود الى بيتها قبل ان يفيق ليوصلها ,وتوجست راشيل اول الامر ولكنها وافقت بعد ان وجدته في حالة من الخوار لم تكن تتوقعها ,وتركته يستريح وبقيت هي في غرفة الجلوس .
ولم تكن لتغفر له او لنفسها قط ماحدث اذ كان شيئا ليس في الامكان تجنبه .

وفي اليوم التالي اكتشفت بالضبط كم كان ذلك الذي حدث شيئا مهما لجويل ,وعوضا عن ان يعتذر عما حدث بدا انه يعتبره مرحلة من مراحل التطور الطبيعي للعلاقه بينهما ,ولم يحاول ان يشير الى موضوع الزواج كعلاج لما بدر منه .
وشعرت راشيل بانها تحطمت وتجنبته لاكثر من اسبوع عانت خلالها عددا من الاتصالات الهاتفيه كانت في اول الامر تتخذ صيغة الالحاح ,ولكنها تطورت الى سباب غاضب بسبب مراوغتها له ,واخيرا وافقت ان تقابله وتواجهه بحقيقة مشاعرها ,كانت مقابلة رهيبه بدأها جويل بالتوسل اليها ,وانهاها بانه لم يكن بعد مستعدا لان يضحي بحريته من اجل اداب المجتمع وتقاليده ,وطلب منها ان تكون متعقله وراشده وناضجه وان تساير الافكار الجديده التي تدمغ العذراوات بالرجعيه والتخلف ,كان كل مافعله ان اعطاها درسا في التحضر !
وتبادلا الفاظا قاسيه ومؤذيه شعرت راشيل بعدها بالاسف المرير لذلك ,ولكنه قضى على ماتبقى لديها من مشاعر تكنها نحوه .
عند ذلك وبعد ثلاثة اسابيع مضت ,اكتشفت انه كان عليها ان تدفع ثمنا اخر تكفر به عن تلك الليله الطائشه ,كانت حاملا ,وبلا مال ومع ذلك صممت على الاتطلب من جويل اية مساعده .
****
وافاقت راشيل من تلك الافكار واستجمعت قواها ,وابتعدت عن المكان ,وجاءتها الخواطر حول سارة وأين ذهبت مع جويل ؟ ترى هل تتعلق سارة به ؟وماذا يقول جيمس كنغدوم في ذلك ؟
كانت الساعه قد تجاوزت الثانيه عشرة بقليل عندما وصلت راشيل الى مسكنها ,ولم يكن هناك اثر للسيارة التي كان جويل يقودها يوم حضر الى لانغثويت .ودخلت الشقه ,وخلعت سترتها ,وذهبت لتعد لنفسها بعض القهوة لتشغل الوقت ,عندما قرع الجرس .وذهبت لتفتح الباب ,وهي تحاول ان تهدئ من روعها .
ودخلت ساره الى الشقه بشئ من الجلبه وهي تمسك بدميتها هيلغا في احدى يديها بينما تلوح في يدها الاخرى باحدى اوراق الرسم .كانت عينا راشيل تتركز على الطفله ولم تبرحاها الا لحظة وقعتا برغم ارادتها على الرجل ذي العينين الضيقتين الذي يقف بسخريه في المدخل ينظر اليها بشيء من الاصرار الغامض ,وعلق وهو يستند على دعامة الباب قائلا :
_هاهي سارة سالمه امنه كما ترين ,هلا دعوتني للدخول ؟
كان من العسير عليها ان تركز انتباهها ,اذ كانت سارة تشد يدها بقوة تريد ان تريها ما احضرته معها ,وقالت في شئ من التعثر :
_هل هناك ما يحملني على ان ادعوك للدخول ؟
_لا! ولكن هل هناك ما يحملك على الا تدعوني ؟
قالها جويل بحدة ودلف الى غرفة الجلوس .
واضطرت راشيل ان توجه كل انتباهها الى الطفله عندئذ, واخذت الرسم الذي كانت سارة تقدمه اليها ,واحست ان قلبها ينبض باضطراب وهي تنظر الى الصورة التي رسمها جويل ,كانت موهبته في الرسم فوق الشك .وكانت راشيل قد ابدت اعجابها بعمله ,وبسهولة اندماجه في الوانه.ولكن صورة سارة كانت تختلف بطريقة ما ,وحاولت ان تقنع نفسها ان ذلك الشعور ناشئ عن حساسية خاصة لان الصورة تمسها عن كثب ,ولانها تعرف نقطة الضعف في نسب سارة مما زاد من حدة الموضوع .ولكن المشكله كانت اكبر من ذلك. ولو اتيح لها ان تعرف الامر بطريقة افضل لعرفت انه هناك مشاعر حقيقيه وراء كل خط من خطوط الصورة ,ولم يكن باستطاعتها ان تجازف في ماهية تلك المشاعر .
وخاطبت سارة امها تعبر عن سعادتها :
_انظري ...انني ابتسم !
وضحك جويل ضحكة خرجت من انفه ,وقال :
_السبب وراء ذلك هو كمية الايس كريم الضخمة التي اكلتها .
قالها وهو يستلقي على الاريكه دون استئذان.
وتركت سارة امها وراحت نحوه وقالت :
_وفي اي حال ,فأنت ايضا اكلت واحدة .
_ولكنها لم تكن كبيرة مثل التي اكلتها انت .
_كان بامكانك ان تأكل واحدة كبيرة .كان طعمها لذيذا رغم كل شيء.
ثم سألته :
_هل صحيح ان ذلك الرجل يقوم بطهو جميع طعامك ؟
وانتفض رأس راشيل الى الاعلى ,والقت بالصورة على منضدة مجاوره وسألت :
_اي رجل ؟اين كنت ياسارة ؟
_ذهبنا الى منزل جويل ...العالي في السماء ...وصعدنا في المصعد الذي ذهب ....
وقاطعتها راشيل وهي في حاله من الروع :
_هل اخذتها الى مسكنك ؟
ونظر جويل اليها بعينين قاسيتين .وقال:
_ولم لا ؟الم تذهبي انت الى هناك مرارا ؟
واتسعت حدقتا سارة ,وسألت :
_صحيح يامامي ؟ذهبت الى هناك فعلا ؟ورأيت كل الغرف ؟
_نعم !
قالتها راشيل باختصار ولم تكن تستطيع ان تنكر ,وادركت بوضوح ان جويل كان يبين لها كيف يستطيع بسهوله ان يدمرها ,ولشد ما كان مقتها له بسبب ذلك .
وبدأ يتحدث الى سارة :
_كنت انا وامك صديقين منذ سنوات ,قبل ان تولدي .
وسألته سارة :
_هل كنت تعرف ابي؟
كانت سارة قد بلغت حدا من الاثارة ,ولكن راشيل بدأت تضيق بالموقف ,وتدخلت لتضع حدا لما يدور ,وقالت :
_بالطبع لم يكن يعرفه .سارة,حان وقت الطعام ,قولي وداعا للسيد كنغدوم ,واذهبي لتغسلي يديك ,سأعد لك بعض الحساء ,وسيكون جاهزا خلال خمس دقائق .
وبدا على سارة انها اصيبت بشئ من الاحباط ,واتجهت نحو الباب ,وقالت وهي تستند على المقبض :_وداعا ياجويل .
وابتسم جويل ,وقال :
_الى الملتقى ياسارة .
وانصرفت سارة ,ونظرت راشيل اليه ببرود ,وقالت على مضض :
_اعتقد ان من واجبي ان اشكرك على عنايتك بسارة .
ونهض جويل على قدميه ,وقال :
_اذا كنت لا تريدين ذلك فلا داع ,استمتعت بصحبتها ,انها طفله ذكيه ,ولقد وجدت صحبتها مبعثا للاثاره .
وصمت برهه وقال :
_اريد ان اراها ثانية .
وخرجت من بين شفتيها ..دون ان تفكر جيدا فيما تقول عبارة :
_لن تستطيع .
وعندما رأت صرامة ملامحه ,حاولت ان تجد الاسباب لتقنعه ,فأضافت:
_ارجوك يا جويل ان تحكم عقلك ! لاداعي لجعل الامورتسير الى الاسوء .
وسأل بقسوة :
_اليس من حقي ان اطلب معرفة ابنتي ؟
كان القميص الثقيل الذي يلبسه منفرجا يكشف عن حنجرته ,وكان يلبس سترة فاتحة اللون من قماش قطني متين وسروالا ازرق مضلعا .وكان يقف ملاصقا لها بحيث بدأت تتنسم رائحته ,واضاف :
_الا تعتقدين انك مدينة لي بالقليل من وقتها ؟
واجابت على الفور :
_انا لا ادين لك بشئ .انك تاخذ ما تريد ..انك لا تنتظر حتى تطلب .
وكان لابد لها من السقوط في ذلك العناق المؤثر الذي اكتسحها كالسيل .
_مامي؟
كانت هذه الصيحة الرقيقه التي انبعثت من ساره تعبيرا عن الاندهاش هي التي اعادت راشيل الى صوابها ,وجذبت نفسها بعيدا عن جويل ,واتجهت نحو الطفله ,وهي تصلح من شعرها باصابع مرتعشه ,وتشد السترة الصوفيه على اسفل ظهرها ,وقالت بشيء من الارتجاف :
_اذن انت هنا ياعزيزتي...ه...هل غسلت يديك؟
وزمت سارة شفتيها ,وحدقت بعبوس الى حيث كان يقف جويل خلف امها ,يصلح من شعره بيديه .
وسار جويل نحو الباب قائلا بهدوء :
_سوف اراك قريبا ياساره ,وداعا ياراشيل .
ولم تحر راشيل جوابا ,اذ لم تكن تثق في قدرتها على الكلام ,وكان كل ما تشعر به عندئذ انها تود لو انقضت عليه .بدا لها كما كان يبدو دائما ,الطباع نفسها والسلوك نفسه ,بكل اسف .
وانغلق الباب خلفه ,حولت سارة انتباهها الى امها ,وقالت بحدة ذهنها المعهوده :
_لا اعتقد ان ذلك الرجل ,والد جويل ,يجب ان يراك هكذا مع جويل وحتى انا لا احب ان اراك تفعلين ذلك ,انت امي انا ولست امه هو .
واحتضنت راشيل طفلتها بين ذراعيها ,وعانقتها بقوة .وتمنت يائسه لو كان الامر بتلك البساطه .تمنت لو ان الصراع الذي كان عليها ,ان تواجهه كان مجرد صراع غيرة طفله على امها .
رابط الجزء الثانى من الرواية:
http://rewayatwe7agat.blogspot.com/2014/04/blog-post_6867.html 

0 comments:

إرسال تعليق